أبدت الأوساط السياسية والإعلامية الفلسطينية والعربية اهتماماً كبيراً بالخطة التي قدمها أخيراً؛ وزير الخارجية الصهيوني يئير لبيد للتعاطي مع قطاع غزة؛ التي تقوم على مقايضة تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع بالتزام فصائل المقاومة بوقف عملياتها ضد «إسرائيل»؛ التي أسماها «الاقتصاد مقابل الهدوء.
تنضم هذه الخطة إلى عدد كبير من الخطط التي قدمتها سابقاً جهات «إسرائيلية» ودولية، وتندرج في إطار مفهوم السلام الاقتصادي الذي ينطلق من افتراض مفاده أنه يمكن للفلسطينيين أن يتعايشوا مع الاحتلال في حال تم تحسين ظروفهم الاقتصادية.
ومع ذلك فإن هذه الخطة تكتسب أهمية خاصة ليس فقط لأنها صدرت عن ثاني أهم مسؤول في الحكومة الصهيونية؛ بل أيضاً لأن (لبيد) برَّر تقديم هذه الخطة باعتراف نادر وصريح بفشل السياسة الصهيونية القائمة على الخيار العسكري في التعاطي مع غزة؛ حيث يشي هذا الاعتراف بعمق أزمة الخيارات التي باتت تواجهها «إسرائيل» في قطاع غزة.
فلبيد» يتفق مع العشرات من النخب العسكرية والإعلامية الصهيونية التي عبّرت عن اليأس في الرهان على عوائد استخدام القوة ضد غزة، من منطلق أن التحدي الذي بات يمثله القطاع قد تعاظم بعد 4 حروب والعشرات من جولات التصعيد بين الفترة الفاصلة بين عامي2006 و 2021 م
يعي «لبيد» أن تصفية الخطر الذي تمثله غزة يتطلب شن حرب برية طويلة تنتهي بإعادة احتلال القطاع؛ وهو ما يعني سلفا التسليم بسقوط عدد كبير جداً من القتلى في صفوف الجنود الصهاينة؛ وتورط «إسرائيل» في الوحل الغزي إلى أمد بعيد، في حين أن المجتمع الصهيوني لا يبدي أي استعداد لتحمل تبعات أي عمل حربي يسفر عن مقتل جنود؛ وهذا ما عكسته حركة الاحتجاج الجماهيري غير المسبوقة التي نفذها ذوو الجنود بعد حادثة مقتل أحد القناصة الصهاينة على حدود غزة برصاص مقاوم فلسطيني.
وعلى الرغم مما تقدم: فإن السماح بتنفيذ خطة لبيد ينطوي على خطورة كبيرة بالنسبة للمقاومة وغزة والقضية الفلسطينية بشكل عام.
فد جاهر «لبيد» بأن خطته تهدف إلى إحداث شرخ بين حركة «حماس» والجماهير الفلسطينية في غزة؛ على اعتبار أن المرحلة الأولى من هذه الخطة تنص على مبادرة إسرائيل وقوى إقليمية والمجتمع الدولي بالعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة؛ مقابل وقف حركات المقاومة عملياتها ضد «إسرائيل»» والتزامها بالتخلي عن كل الجهود الهادفة إلى تعزيز قوتها العسكرية من خلال الامتناع عن تصنيع وتهريب السلاح.
أما تطبيق المرحلة الثانية من الخطة التي تشمل تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار والبنى التحتية؛ فيتوقف على مدى التزام المقاومة بوقف عملياتها وجهودها لتعزيز قوتها العسكرية؛ مما يحملها المسؤولة أمام الجمهور الفلسطيني؛ ليس فقط عن عدم تطبيق هذه المرحلة: بل أيضاً تهديد المكاسب، الاقتصادية التي تم تحقيقها في المرحلة الأولى.
وحسب منطق «لبيد». فإن ردَّ الفعل الجماهيري الغاضب على سلوك المقاومة قد يؤسِّس إلى مسار ينتهي بإقصاء حركة حماس عن حكم غزة؛ مما يوفر الظرف السياسي الداخلي أمام عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع أو ظهور قيادة محلية بديلة.
المفارقة أن «إسرائيل» تراهن على تحقيق مصالحها في غزة دون أن تتحمَّل أي تبعات مادية؛ على اعتبار أن دولاً عربية ستتحمل العبء الأكبر من تمويل هذه الخطة؛ كما يرى لبيد.
خطة «لبيد» تدلل على أن الصهاينة لم يستخلصوا العبر من تاريخ الصراع مع الشعب الفلسطيني؛ الذي أثبت أن كل محاولة لترويض الفلسطينيين للتعايش مع الاحتلال مقابل تحسين الأوضاع الاقتصادية ستنتهي إلى فشل ذريع.
وتتجاهل هذه الخطة حقيقة أن حركة حماس تحوز على دعم وتأييد قطاعات هائلة من الجماهير الفلسطينية؛ وبالتالي لا يمكن لعاقل أن يتوقع أن تتخلى هذه الجماهير عن الحركة لمجرد أن الاحتلال سمح ببعض التحسينات على الوضع الاقتصادي.
إن سماح «إسرائيل» في الأعوام الماضية بتحسين الأوضع الاقتصادية في الضفة الغربية بشكل كبير مقارنة بقطاع غزة: لم ينجح في وقف انهيار شعبية السلطة الفلسطينية وتحديدها رئيسها محمود عباس الذي تؤكد آخر استطلاعات الرأي أن 78 % من الفلسطينيين يطالبون باستقالته بسبب فشل برنامجه السياسي ومواصلته التعاون الأمني مع الاحتلال.
لم يستخلصْ الصهاينة الدروس من مُحاولاتهم الفاشلة لفرض قيادات فلسطينية وعربية تتوافق مع مصالحهم؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي سمحت «إسرائيل» بتشكيل روابط القرى في الضفة الغربية لتكون قيادة بديلة عن منظمة التحرير؛ حيث انتهت المحاولة بفرار قيادات هذه «الروابط»» وفي لبنان وفرت إسرائيل الظروف لتنصيب قيادات مارونية متحالفة معها لتتصدر الحكم في بيروت؛ حيث كانت النتيجة أن الموارنة قد خسروا ثقلهم السياسي.
تستمدُّ المقاومة الفلسطينيَّة شرعيتها من حقيقة أنها تمثل حركة تحرر وطني مشروعة ضد احتلال إحلالي؛ وما لم يدرك الصهاينة هذه الحقيقة؛ فإنهم سيواصلون تكرار تجاربهم الخاطئة.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول