هذا إرث أتاتورك

تمرّ في 3 مارس2014 تسعون سنة على إلغاء الخلافة الاسلامية من طرف الجنرال مصطفى كمال الذي لقّب نفسه بأتاترك أي أبو الأتراك ، وأرى من المفيد الوقوف عند عدّة محطات تقتضيها الذكرى.

·        لامبالاة إسلامية : التنصّل من نظام الخلافة التي عمّرت ثلاثة عشر قرنا من حياة المسلمين ليس حدثا عابرا ولا واقعة ثانوية لكنه سقوط لواحد من أهمّ عوامل الوحدة الاسلامية ولو على المستوى الرمزي ، ومع ذلك مرّ عند حدوثه وسط لامبالاة لافتة لدى الرأي العام الاسلامي ، ويعود ذلك إلى حالة الأمة آنذاك ، فقد كانت جلّ أقطارها تحت نير الاحتلال الأجنبي وهي غارقة في انحطاط فكري وثقافي وسياسي قادها إلى ما يشبه موت سريري ، أمّا حكّامها في بعض البلاد " المستقلة " مثل مصر والجزيرة العربية فقد شغلتهم عروشهم عن الشأن العام الاسلامي وقضايا الدين والحضارة ، لكنّ ذلك آلم علماء الدين فخطبوا وألّفوا الكتب ودبّجوا المقالات ونعى أحمد شوقي الخلافة بقصيدته العصماء التي مطلعها :

عادت أغاني العرس رجع نواح   ونعيت بين معالم الأفراح

كفنت في ليل الزفاف بثوبه        ودفنت عند تبلج الإصباح

 واستتبّ الأمر للدولة القُطرية الوطنية على حساب دولة الاسلام الكبرى التي وضع أساسها الرسول صلى الله عليه وسلم وتوارثتها الخلافة الأموية فالعباسية ثم العثمانية والتي لا سلطة فيها – رغم الانحرافات التالية لعهد النبوّة – إلا لشرع الله.

·       تحديث في ظلّ الدكتاتورية : انطلاقا من إيمانه أن تخلّف  تركيا راجع إلى التمسّك بالإسلام واللغة العربية أعلن مصطفى كمال تبنّي العلمانية – لأوّل مرة في التاريخ الاسلامي – وما تقتضيه من " تنوير " وحريات وحقوق لكنّه أقام في حقيقة الأمر نقيض ما تبنّاه نظريّا وهو نظام حكم فردي استبدادي لا مكان فيه للرأي المخالف ، زاد من بشاعته عبادة الشخصية التي أحاط بها نفسه عبْر مؤسسات هجينة ليس لها مع الديمقراطية صلة يتلخّص دورها في مباركة جميع مبادراته وقراراته وإحاطتها بهالة من التعظيم كما هو حال النظم الاستبدادية دائما فانتشرت تماثيله وصوره في أرجاء البلاد ،ومن المضحكات أنه عهِد بعد سنين من انفراده بالحكم إلى أحد مقرّبيه بإنشاء حزب " معارض" تماشيا مع الواجهة الليبرالية لكنّه لاحظ أصواتًا  من داخل هذا الحزب الوليد تعبّر عن بعض وجهات نظر فيها شيء من النقد للسياسات القائمة فألغى ذلك الحزب نهائيا...

هكذا كان " الغازي " يطبق الديمقراطية التي يفضّلها على الاسلام ، وهكذا ما زال  يؤمن بها المعجبون به في البلاد العربية إلى اليوم ، يرفضون الاسلام لأنه " غير ديمقراطي " ويتبنّون العلمانية الغربية لكن في ظلّ الحكم العسكري بعيدا عن صناديق الاقتراع النزيهة وعن الاختيار الشعبي الحرّ ، أي ينادون بالديمقراطية ويطبّقون الدكتاتورية، ومن يرفض هذا المسلك فهو عندهم أصولي إرهابي ، كما كان عند مصطفى كمال رجعيا جامدا ليس له حق في تركيا الجديدة الحرّة الليبرالية، ووفق هذا التصوّر لا يبقى لباس الرجل والمرأة  ضمن الحرية الفردية لكنه يخضع لاختيار النخبة " المتنوّرة " التي فرضت على الأتراك القبّعة ونزعت عن النساء الحجاب وأشاعت كلّ سلوك ونمط حياة يخالف النسق الاسلامي ، هذا ما فعله " بطل " تركيا بالإضافة إلى تبنّي التقويم المسيحي الميلادي بدل التقويم العربي ، كما حارب اللغة العربية والحرف العربي حتى في الأذان ، وهو عين ما يحاول العلمانيون المتطرفون فعله في بعض البلاد العربية كالجزائر وجوارها ، على خطى  مَثلهم الأعلى التركي ، وضمن " ثورة ثقافية " تستنسخ سلبيات الغرب وتستبعد إيجابياته.

·        استنساخ تبعيضي : كان استلهام مصطفى كمال للنموذج الغربي الليبرالي تبعيضيا إلى أبعد حدّ ، فقد أقام نظاما " تعدّديا " لا يُسمح فيه بالتعبير إلا للأصوات الممجِّدة لسياساته ، سواء تعلق الأمر بالبرلمان أو مكوّنات المجتمع المدني أو التداول على السلطة ، إذ ابتدع – وهو المنبهر بالنظام الغربي – الرئاسة مدى الحياة ولم يأذن لأحد بمنافسته حتى وفاته ( حكم من 1923 إلى 1938 ) ، وفي المقابل أشاع الفواحش الخلقية وضيّق على التديّن وقلّص التربية الدينية إلى حدّ إلغائها ، وتبنّى يوم الأحد عطلة أسبوعية بدل الجمعة ، وحوّل مسجد آية صوفيا العظيم إلى متحف ، وألغى أحكام الشريعة الإسلامية حتى تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية كالميراث وتعدّد الزوجات ، كلّ هذا من غير أخذ رأي الشعب ، تماما كما يتمنّى ويفعل ورثته الآن في بلادنا العربية ، وختم حياته بالنصّ في الدستور على علمانية الدولة ، وهو ما يعدّه خصوم الإسلام إنجازا تاريخيا رغم ان إلحاق تركيا بالنموذج الغربي بهذا الشكل لم يخرجها من التخلف إطلاقا لا في عهد مصطفى كمال الذي دام 15عاما        ولا في عهد الجنرالات الذين توارثوا تركته لأن همّ الجميع لم يكن الإقلاع الاقتصادي والرقي الاجتماعي وإنما كان محاربة الإسلام بلا هوادة .

·       التركة الهزيلة : مات " البطل " ولم يحقق لا ازدهارا اقتصاديا لبلده ولا استطاع إلحاقها بأوربا ولا نعِم شعبه بالحريات والحقوق بل عانى من نظام حكم شخصاني استبدادي عامل معارضيه بالظلم لا بالعدل ، فملأ السجون وأسال الدماء ، وترك تركيا عوراء عرجاء مشوّهة انسلخت من مرجعيتها ولم تنجح في تبنّي انتماء بديل ، وتساءل المراقبون ما الذي تفضُل به الجمهورية نظامَ الخلافة الذي ثارت عليه ورأت فيه أسباب التخلف والتردّي؟ ما الذي جناه الشعب التركي من حكم الجنرالات الذين تعاقبوا عليه جهارا أو متستّرين سوى مزيد من التضييق على الحريات والتقهقر الاقتصادي ؟ وذلك ما جعله ينبذ العلمانية عندما أتيح له الاختيار الحرّ فتمسّك بالحزب ذي المرجعية الاسلامية وجدّد ثقته فيه أكثر من مرّة فحقّق النموّ الاقتصادي لأول مرة واسترجع شخصيته ويطمع في المزيد.

لكنّ العلمانية العربية المتوحشة لا ترَى إلى الآن من الصورة إلا ما تتمنّى تعميمه من إقصاء للإسلام ولو كلّف ذلك التضحية بجميع ما تزعم الإيمان به من مقومّات الديمقراطية ومقتضياتها من الحكم المدني إلى صندوق الانتخاب مرورا بقدسية الحريات الفردية والعامة وحقوق الانسان ، وانحيازا إلى الانقلابات العسكرية وحكم الأقلية ضدّ رغبة الأغلبية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين