إذا كان الغرض من الخطاب الإسلامي تعريف النّاس بالإسلام، وتحبيبهم به، والدّفاع عنه أمام الجاهلين والمغرضين.. فإنّ هذا الخطاب محل اختلافِ وجهاتِ نظرٍ من حيث فَهْمُ أصحاب هذا الخطاب لمزايا الإسلام وحقيقته، وللأسلوب النّبوي في مخاطبة الكافرين، والعُصاة، والمقصِّرين.
ويُمكننا ذكر سبع نقاط نرى أنّ على أبناء الإسلام مراعاتها وهم يُخاطبون النّاس بهذا الدّين.
الأولى: الموازنة بين الترغيب والترهيب مع ترجيح الأول على الثاني
لقد بعث الله تعالى نبيه محمداً e ليُخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ويُقيم الحجّة عليهم، ويُبشّرهم وينذرهم، وليكون رحمة للعالمين. والآيات الكريمة الدالة على هذه المعاني كثيرة، وليس من الحكمة انتقاء صفة الإنذار وحدها وجعلها محور الدّعوة.
بل إنّ القرآن الكريم يحفل بالآيات المبشّرة إلى جوار الآيات المنذرة:
} نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ {(الحجر:49-50).
} قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { (الزمر:53).
وفي الحديث القدسي الصحيح: "ومن لقيني بقُراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة". رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
والإنسان الذي يستجيب من باب الترغيب يكون مطمئناً إيجابياً، راضياً، بنّاءً، مُحبّاً، بخلاف الذي يستجيب من باب الترهيب فإنّه يكون مرعوباً سلبياً.
الثانية: ترجيح التيسير في الفتوى على التشديد فيها
ينطلق المتشدّدون من منطلق الغيرة على الدِّين، والخوف من تفلّت الناس من أحكامه. ولو أنّهم اقتصروا في التّشديد على أنفسهم لكان هذا من الورع الذي يُحمَدون عليه غالباً، ولو أنهم اكتفوا بأن يندبوا النّاس إلى الأخذ بالأشدّ أو الأحوط لكان هذا بجملته من الخير، أما أن يُشدّدوا على عبادِ الله، ويوسّعوا دائرة التحريم، ويضيّقوا من المباحات، ويوجبوا ما لم يوجبه جمهور أئمّة المسلمين.. فهذا من التعنّت الذي يؤدّي إلى تنفير النّاس من الدّين، فكأنّهم يقولون: إنّ هذا الدّين عُسرٌ وليس يُسراً.
ألا فليعلم هؤلاء أنّ الوقوع في خطأ تحريم الحلال لا يقلّ إثماً عن خطأ تحليل الحرام، وقد قال تعالى: } وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ { (النحل:116).
وقد تنبّه الإمام الجليل سفيان الثّوري إلى خطأ المتنطّعين فقال: "التّشدّد كلّ النّاس تُحسنه. ولكنّ العلم رخصة من عالم".
فالتضييق على الناس، واختيارُ الأقوال التي تُحرجهم.. ليس هو العلمَ المحمودَ، بل يستطيعه من كان قليلَ البضاعة من العلم. كما أنّ إطلاق فتاوى التّرخّص من غير دراية وفقه وخوف من الله... هو مدعاةٌ للمروق والفسوق.. "ولكنّ العلم رخصة من عالم".
ولنتذكّر أمثال هذه النّصوص المقدّسة:
قال الله تعالى: } يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ { (البقرة:185).
وقال: } هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ { (الحج:78).
وتصف السّيدة عائشة رضي الله عنها منهج النّبي e في توجيه النّاس: "ما خُيّر رسول الله e بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً" رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
ويَحسن هنا التنبيه إلى أمرين:
الأول: يتّصل بمضمون رسالة الإسلام، وهو أن يكون الإنسان فاعلاً إيجابياً في الحياة الدنيا، فهي ممر إلى الآخرة، وينبغي أن يكون هذا الممر مُعْشِباً مزهراً، لا قاعاً بلقعاً.
يقول الله تعالى: } وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا { (القصص:77).
ويقول النّبي e: "إذا قامت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة، فاستطاع ألاّ تقوم عليه حتّى يغرسها فليغرسها". رواه أحمد.
إنّ فلسفة كراهية الحياة والنّاس ليست من الإسلام. المسلم يُحبّ الحياة فيعمل على عمرانها وتطويرها، ويحبّ النّاس فيتعاون معهم على البرّ والتقوى وينصحهم ويُريد لهم الخير والهداية.
الثاني: ويتعلّق بمنهج الدّعوة بأن يُراعي الداعية أحوال النّاس والعصر الذي يعيشون فيه، والظروف التي يمرون بها، وسنّ المدعو وجنسه. فقد أذِنَ النّبي e للأحباش أن يرقصوا ويغنّوا في مسجده الشريف، بل أذِن لزوجه الصغيرة عائشة أن تتفرّج عليهم، لذلك تقول السيّدة عائشة فيما رواه عنها البخاري ومسلم: "فاقْدُرُوا قَدْرَ الفتاة الحديثة السنّ الحريصةِ على اللهو".
وفي شأنٍ آخر يقول النّبي e لعائشة: "لولا أنّ قومك حديثو عهد بجاهلية –أو قال: بكفر- لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلتُ بابها بالأرض، ولأدخلتُ فيها من الحِجْر". رواه مسلم والترمذي.
ولا تنسَ كيف عامل النّبي e الأعرابي الذي بال في المسجد وأراد الصحابة أن يزجروه عن ذلك . قال e: "لا تَزْرِمُوه" ثمّ دعا بدلوٍ من ماء فصُبَّ عليه. رواه أحمد والبخاري ومسلم والنّسائي وابن ماجه.
الثالثة: الاهتمام بمقاصد الشّريعة
لقد استنبط العلماء المقاصد الكليّة للشريعة (وهي حفظ الدّين والنّفس والنّسل والعقل والمال) ثمّ المقاصد الفرعية للتّشريعات، ووصلوا إلى قواعد كثيرة، من مثل: "مصلحة الجماعة تقدّم على مصلحة الفرد" و"المصلحة الدائمة تقدّم على المصلحة العارضة أو المؤقّتة".
وقد بيّن القرآن مقاصد العبادات من مثل:
} إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ { (العنكبوت:45).
} .. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { (البقرة:183).
} خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا { (التوبة:103).
} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ { (الحج:28).
وتأتي أحاديث النّبي e لتربط كذلك بين العبادات ومقاصدها:
"من لم يَدَعْ قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
"ربَّ صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع". رواه ابن ماجه.
وقد وصَل العالم الأصولي العزّ بن عبد السّلام إلى قاعدة نفيسة:
"كلّ أمر تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو ردّ".
أما الإمام الشّاطبي فقد توسّع وأجاد في بيان مقاصد الشريعة، وربط الأحكام بمقاصدها.
ويقول الإمام ابن قيم الجوزية: "اعلمْ أنّ الشريعة عدلٌ كلّها، وقِسط كلّها، ورحمة كلّها. فكلّ مسألة خرجت من العدل إلى الظّلم، ومن القسط إلى الجور، ومن الرّحمة إلى ضدّها، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتّأويل".
الرابعة: مراعاة الأولويات
فهناك أصول العقائد كالإيمان بالله واليوم الآخر.. وفروعها كتفسير آيات الصّفات، وحكم الحلف بغير الله، والتّوسّل إلى الله ببعض مخلوقاته.
وهناك الفرائض والمندوبات.
وهناك ما اتّفق العلماء على حكمه، وما اختلفوا فيه.
ولا شكّ أن المسلم الحصيف، وإن كان مطلوباً منه أن يلتزم الدّين كلّه، في حياته كلّها، فإنّ ظروفاً معينة تجعله مضطراً إلى الموازنة بين حكم وآخر عند التّزاحم والتعارض.
فمثلاً: شبّ حريق قريباً منه، وكان قادراً على الاشتراك في إطفائه أو في إنقاذ من يتعرّضون له، وكان عليه كذلك أن يقوم بواجبات أخرى أو مندوبات. لا شكّ أن انشغاله بأيّ من هذه الواجبات عن واجب الإطفاء والإنقاذ يُعدّ جهلاً بالأولويات.
ومثال آخر: يجد أحد أبويه واقعاً في إثمٍ متّفق على حكمه، أو مختلف فيه، فيتّبع أسلوباً فظّاً في تغيير "ذلك المنكر" فيقع في العقوق الذي هو أشدّ إثماً من المنكر الذي يُريد تغييره!
الخامسة: احترام دور العقل
العقل محل احترام وتقدير في كتاب الله تعالى، وهو ليس بديلاً عن النّص، ولا يجوز أن يكون منافساً له، ولكنّه متفاعل معه يعمل على فهمه واستخراج الأحكام المناسبة للواقع بعد فهم هذا الواقع. وإذاً فعملية الاجتهاد في الفقه والتفسير والحديث يجب أن تبقى مستمرة، وأن تُطوَّر. وحين ننظر إلى أئمّة الإسلام في مختلف الميادين نجدهم أصحاب ذكاء وفطنة، وخُلُق وتقوى، وتقديس للنّصوص، وفهم للواقع الذي يعيشونه.. كلّ في ميدانه، كأبي حنيفة والشّافعي، والبخاري، وابن تيمية وابن كثير... وحين يكون الاجتهاد ممنوعاً، وحين يكون منفلتاً من القيود يكون الجمود أو الخراب.
السادسة: الاستفادة من الماضي، والتّطلّع إلى المستقبل
ماضي هذه الأمّة، الذي يبتدئ ببعثة النّبي e، بل يستأنس بدعوات الأنبياء السابقين وتجاربهم، ويمرّ بمرحلة الخلافة الراشدة، ويستنبط الدروس الخيّرة من تاريخ الأمّة في أجيالها اللاحقة.. كلّ هذا زادٌ نعتزّ به ونسترشد، لكنّه لا يُغني عن النّظر إلى الحاضر والمستقبل، وقراءتهما وفهمهما بعمق، والتّعرّف على ما فيهما من تحدّيات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية... والبحث عن مواجهة ذلك كلّه بروح الإسلام نصوصاً وتجارب.
السابعة: وضوح العلاقة مع الآخر
الإنسان مخلوق اجتماعي لا يستطيع الانعزال عن الآخرين، سواء فيما يتعلّق بالحاجات المادية من غذاء ولباس وخدمات، أو ما يتعلّق بالحاجات النفسية من حوار ومشاركة في الأفراح والأتراح... وإذا كان هذا كلّه بديهياً فلا بدّ أن تكون العلاقة مع الآخر واضحة.
هذا الآخر إذا كان مسلماً، فيجب أن تكون العلاقة قائمة على الحبّ في الله، والتّناصح، والتّعاون على البرّ والتّقوى. ومن ذلك تصحيح الأخطاء وتطوير الحياة، ومقاومة الظّلم، وإغاثة الملهوف، ونشر العلم.
وهذا يقتضي توسيع الصّدر للمخالف، والرّفق في الأخذ بيد المقصّر والمخطئ، ومُعاقبة الظالم والباغي في نهاية المطاف.
ولكنّ هذا كلّه لا يعني أن تزول نقاط الخلاف، ولا أن يلغى ارتكاب الآثام في المجتمع، بل إن الاقتتال يُمكن أن يحدث بين المؤمنين } وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...{ (الحجرات:9).
أما إذا لم يكن الآخر مسلماً، فيجب التمييز بين الذين يُقاتلوننا في الدّين ويخرجوننا من ديارنا، وبين الذين يكفّون أيديهم. كما ينبغي أن نلحظ واجبنا في دعوة الآخرين إلى الإسلام، سواء بالدعوة غير المباشرة، حيث نقدِّم من أنفسنا نموذجاً صادقاً جذّاباً للإسلام، أو بالدعوة المباشرة بأن نوضّح معالم الإسلام وخصائصه ومزاياه، ونردّ على الشّبهات والأغلاط التي تُثار حوله.
وأن يكون إقبال النّاس إلى الإسلام، واعتناقهم إيّاه أحبّ إلينا ألف مرّة من مخاصمتهم والاقتتال معهم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول