نحن والنقد والأزمة

 

نحن ننتقد كثيرًا ، لا تنجو من نقدنا اللاذع مؤسسة رسمية ولا هيئة شعبية ولا شخصية وطنية ولا حزب ولا جمعية ولا عالم ولا مسؤول ولا علمانيون ولا إسلاميون ولا عامة الناس.

كلّهم فاسدون بدرجات متفاوتة ، لكن بما أنهم جزائريون فهم فاسدون بالضرورة ، منحرفون ، جهلة ، منافقون... أعمالهم منحرفة، إنجازاتهم رديئة وحتى نواياهم خبيثة.

سياسيون متعفّنون دون استثناء، متديّنون تسيّرهم مآرب دنيوية ويعشّش فيهم النفاق، أطبّاء لا يعالجون المرضى بل يقتلونهم، أئمة مساجد لا يرشدون الناس بل يضلّونهم ، يتاجرون بالدين ويأتمرون بأمر الإدارة لا بأمر الله تعالى ، نساء فاسقات فاجرات خاصة المحجبات منهنّ... والقائمة طويلة... لا ينجو أحد. 

جهة واحدة نجتْ من النقد هي ذواتُنا...نحن أفضل وأعلم وأكفأ وأصدق من الآخرين...

أثنيتُ مرة في درس لي على إنجاز الطريق السيار ( وأنا مثل باقي الجزائريين كثير النقد) وذكرتُ محاسنه وإيجابياته على المسافرين وكيف اختصر المسافات ويسّر التنقل ، فانبرى لي أكثر من واحد من المستمعين ليذكّرني بالاختلاسات الضخمة التي سايرت إنجازه، هكذا يتعامَوْن على محاسن الانجاز الذي يفيدهم متحجّجين بفساد حقيقي أو موهوم طال جميع المجالات وليس الطريق وحده ، ولاحظتُ أكثر من مرّة كيف يؤازرني القرّاء والمستمعون حين أوجّه نقدا لمؤسسة أو هيئة أو مسؤولين لكنهم يخرصون حين أذكر إيجابيات هؤلاء ، رغم أني كثير الترديد لعبارة " نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت " ، بمَ نفسر ردّ فعل الجمهور ؟ إنهم يبصرون الإساءة أو يتوهّمونها ويتغافلون عن الانجاز مهما كان حسنا وجيّدا... إنه إدمان النقد ومحاسبة الغير وتضخيم السلبيات إلى جانب ثابتٍ كبير من ثوابتنا هو تزكية النفس صراحة أو ضمنا وتنزيهها واتخاذها صنما نطوف حوله دون انقطاع.

فلْيكنْ ذلك، لكن العمل أولى من النقد، ورجل القول ( ولو كان قولا حسنا جميلا) غير رجل العمل، والبناء أنفع من الهدم ... إننا نعاني أمراضا نفسية خطيرة عمّت مع الأسف وأخذت رقعتها تتسع إلى درجة أن الدولة تلعن الشعب والشعب يلعن الدولة ، إنها حقيقة مرّة لكنها الحقيقة، ولم تعد السلبية تتمثّل في القبوع بعيدا عن الإنجاز وإنما أصبحت تتبوأ مركز تعميم الأحكام ولعن النجاح واتهام الأعمال مهما كانت مفيدة والنيات مهما كانت صادقة.

إن إيقاد شمعة واحدة أجدى من سبّ الظلام ألف مرة ، الجزائر في حاجة إلى كلّ أبنائها وطاقاتها، هي بلدهم جميعا ، حبذا لو اعترفنا بالاختلاف وأحسنّا تسيير الاختلافات بيننا في ظل مساهمة كل الأطراف في تقديم البديل بالكلمة الهادفة والسعي الميداني والعمل الصالح ولو كان صغيرا، هذا أفضل من التهارش والتقاطع والنقد السلبي وتجريح الهيئات والأشخاص، أليس في البلد مخلصون لدينهم ومجتمعهم ؟ أليس فيه من يتقن العمل ويتفاني في أداء وظيفته ؟ أيُعقل أن نَعدّ جميع المسؤولين والضباط والإطارات لصوصا ومصاصي دماء ؟ هل المنتسب لذلك الحزب أو التيار الذي تختلف معه عدوّ بالضرورة يتربّص بالبلاد لتخريبها أو بيعها ؟ هل هذا كلام معقول ؟ 

إن العاقل ليس من يميّز الخير من الشرّ ، فهذا أمر بسيط لكنه من ينتبه إلى خير الشرّيْن وأهون الضرريْن، يستثمر في أي مساحة من الخير مهما كانت صغيرة ويحاول دفع الشرّ ليس بالسبّ والتجريح ولكن بتقديم البديل.

كلّ ما سبق لا يعني بحال السكوت عن المفاسد والانحرافات، فنحن أمة يحتلّ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أرفع الدرجات لكني أتكلم عن مغادرة مربّع التفرّج لاقتحام ساحات العمل الصالح على بصيرة .

وأختم بمثال يوضّح الفكرة أكثر:

نحن نشتكي من تهميش اللغة العربية ومحاولة اجتثاثها ، ونحن محقون في شكوانا لكننا لم نتجاوز الشكوى إلى الإنجاز ، أين الإنتاج الوفير بالعربية ؟ أين الجرائد والمجلات الجادة ؟ أين الكتب الكثيرة النافعة ؟ أين إنتاج محبي لغة الضاد ؟ انظروا إلى القنوات – حتى قناة القرآن الكريم – كيف استمرأت لغة هجينة عرجاء بشعة بدل إتقان لغة الضاد ؟ ذنب مَن هذا ؟ 

الحلّ في التحلي بالايجابية والإقدام وتحمّل المسؤولية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين