نثر الورود على ضريح العلامة عبد المجيد محمود

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما سيد ولد آدم المصطفى، وعلى آله وأصحابه المستكملين الفضل والشرفا، وبعد:

فقد بلغنا ونحن بالبلاد التركية نبأ وفاة العلامة الكبير، والفاضل الخطير، والأستاذ النحرير، شيخنا الجليل، بقية الجيل المبارك الذي أنتجته مصر المحروسة: فضيلة الدكتور المحدث الفقيه المشارك في أنواع الفنون والمعارف عبد المجيد محمود رحمه الله وبلَّ بالمغفرة ثراه.

فاسترجعنا وحمدنا من لا يحمد على مكروه سواه، وتذكرت والحال هذه ما قاله الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري حين بلغه نبأ وفاة الحافظ الدارمي:

إن عِشْتَ تُفجع بالأحبَّة كلهم ... وبقاءُ نفسك لا أبا لك أفجعُ

وهذا الرجل رحمه الله يذكرك سمته بالسلف الأول؛ في وقاره وهيبته وطول صمته وجزالة كلامه، حتى تنتفع برؤيته قبل مجالسته وسماع كلامه، شئت أم أبيت، وهو بركة دار العلوم وأستاذ أساتيذها المقدم في كلية الشريعة غير مدافع.

بارع في الحديث وعلله وفنونه سنداً ومتنا، حتى أنني في أول لقائي به وسماعي لكلامه في العلل والموافق والمخالف، قلت له: سيدنا، ما أظن أهل مصر إلا قد ضيَّعوك كما ضيَّعوا الليث من قبل! فتبسَّم وعلاه صمت وفكرة.

ثم قال: أنا كنتُ في المملكة السعودية ثم درَّست في الأردن وصحبت شيخكم الجليل الدكتور حارث الضاري، ثم أثنى على الشيخ حارث وذكره بكل جميل وذكر ما بينهما من صحبة في التدريس بالأردن، فقلت له: الأسى على الفحول يضيعون في الجامعات!

فقال: من منهم ضيَّعته الجامعات؟

فقلت له: الدكتور عبد الكريم زيدان، ولولا تصانيفه ما عُرف فضله، ولو خرج للمساجد ما سُمع بكثير من الشيوخ الذين طار لهم ذكر، وليسوا بذاك، لكن كم في الزوايا من خبايا.

فقال: ليس لي من التصانيف كالذي للأستاذ زيدان، فسألته عن سبب ذلك، فقال: لأني أهتم جداً بطلبتي الذين أشرف عليهم، وأستفرغ الوقت في تصحيح وتصويب رسائلهم وتقويم منهجهم العلمي.

فقلت: إذن عاد البحث السابق، فتبسَّم في ضحكة، وما أجمل ابتسامته إذا ارتسمت على محياه وثغره الباسم! والعجب كيف جمع الله في صورته بين الضدين: الوقار والضحك:

ألا إن الوقارَ إذا علاهُ ... نِقَابُ الضحْكِ منظرُهُ عجيبُ

وكلامه حق، فقد شهدت بنفسي مطالعته غير مرة لرسائل طلابه حتى لعله يطالعها أكثر من الطلبة أنفسهم، ومن المناقشين، ويجالس الباحثين في داره العامرة بالمعادي وفي مكتبه بدار العلوم القاهرية، ويباحثهم ويوجههم وينبههم على مواقع الغلط في أبحاثهم ويرشدهم إلى مظان بحثهم من المصادر والمراجع حتى كأن البحث له وليس لهم!

والرجل من أعلم بالناس بمتون الأحاديث وعللها، وهو الذي فتق أفواهنا للكلام في هذا الفن وأرشدنا إلى طرائقه ونبَّهنا على مواقع الخلل والصواب فيه، كما أن شيخنا الأستاذ طارق عوض الله هو من نبهنا على وجوه النظر في علل الأسانيد.

وكان الشيخ أحمد معبد يجل العلامة عبد المجيد ويطريه ويعده في شيوخه، ويقول: (تعلمنا من كتابيه في الطحاوي والاتجاهات الفقهية ونحن طلاب، ونتعلم منهما ونحن أساتذة)!

ولو قيل لي ما تشتهي؟ لقلت: أشتهي أقدم القاهرة والعلامة عبد المجيد حي فأحضر مناقشةً تجمعه مع الدكتور أحمد معبد، من حلاوة المناقشة إذا كان فيها هذان العالمان مناقشين، كما وقع في مناقشة صاحبنا الشيخ الدكتور المحدث أحمد بن علي الحندودي في تحقيقه المفيد لمعجم الطبراني الصغير، وقد ذكروا عن البخاري أنه كان يقول: (أشتهي أقدم العراق وعلي بن عبد الله حي فأجالسه) يريد ابن المديني.

ولما حقَّق شيخ علماء الشام الفقيه المحقق المحدث عبد الفتاح أبو غدة نوَّر الله مرقده رسالة الميداني في معنى قول البخاري (وقال بعض الناس) ساق فيه بحث شيخنا العلامة عبد المجيد في هذا الباب من كتابه الفذ (الاتجاهات الفقهية عند أهل الحديث) وقال في وصفه:

(وتعرَّض لهذا الموضوع أخيراً من قريب، الأستاذ الفاضل، العالم الماهر الدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد الشافعي المذهب، في كتابه النافع الماتع الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري المطبوع سنة 1399، فأحسن وأجاد جزاه الله خيراً).

هذا كلام هذا السيد القرم، فتأمله وقابله متعجبا بكلام بعض دكاترة اليوم، ممن تعرض للرجل بفهم أعور ونقد أخور، حاشا من نقده بعلم وإنصاف، وصدق من قال: لا يعرف الكبار إلا الكبار، ولا الرجال إلا الرجال.

وعلى ذكر شافعية الدكتور عبد المجيد: فقد سمعت مرة كلاما له في الذب عن مذهب الإمام الأعظم والهمام الأقدم، بما يقضي ناظره العجب من معرفته بأصول الرواية والدراية عند الحنفية، فسألته بعد الانصراف ونحن نوصله في السيارة إلى داره: هل جنابكم الكريم حنفي المذهب؟

فأجاب: لا، فقلت له: فشافعي؟ فتبسَّم!

وقد ذكر لي صاحبنا الشيخ الدكتور عبد الفتاح الكاسح وهو من فضلاء المالكية، أنه حضر له بالإسكندرية كلمة في طريقة المقاصد عند المالكية، فتعجَّب من سعة اطلاعه على مذهب مالك وأصوله ورجاله وميله لاختيار مسائل يرجح فيها دلائل المالكية، قال: فسألته هل جنابكم الكريم مالكي؟ فقال مبتسما: لا!

على أنه درَّس بالمملكة السعودية وغيرها مذهب الإمام أحمد، والفرائض وتاريخ الفقه وأصوله، فضلا عن الحديث وفنونه إسناداً ومتنا، وكثير من أساتذة الحديث هناك به تخرَّجوا، وبأستاذيته نـهضوا وقاموا.

وشافعيته مما لا مماراة فيها، فإنه كان يذكر أنه رأى الإمام الشافعي في منام صالح وبيده مصحف وهو يعتلي منبر مسجده، وكان يذكر كلمة العلامة شاكر في (تقدمة تحقيق الرسالة): (لو جاز لعالم أن يقلد عالما، كان أولى الناس عندي أن يقلد: الشافعي).

والواقع أنه مشارك في فنون من المنقول والمعقول، وقد حضرت أنا دروسه في المصطلح، فظهر لي من درايته بالمعقولات والفقه والتفسير والعربية ما يشهد له بأنه متكامل الأدوات، مستحكم الآلات في صنوف المعارف، رحمه الله.

ولو كان له أصحاب يقومون به وينهضون بعلومه لكان مدرسة وحده، لكن قلة تصنيفه وميله للعزلة وإيثاره للخلوة والانفراد بإفادة طلبته الجامعيين حال دون ذلك، ولله الأمر.

وله من التواليف غير ما مر: كتاب في أمثال الحديث، وجزء في ابن خزيمة، وآخر في ابن حبان، وشرح اصطلاحهما الفقهي في صحيحيهما، ولا أظن أن له مثل ذلك في صحيح أبي عوانة! فالشك مني، وله رسالة لطيفة في علم العلل أهداها لنا في داره العامرة وكتب الإهداء بخطه البديع الرشيق في صيف سنة 2019، وكان هو من أعلم الناس بـهذا الفن، وكان يقول إن صحيح البخاري كتاب في العلل!

وأما كتابه (الاتجاهات الفقهية) فمما لا ينبغي التخلُّف عن مطالعته وتأمل معانيه، فإنه فتح من فتوح العلم، وهو ينبه أذكياء الباحثين إلى معاني علل المتون ومآخذ المذاهب ومدارك المجتهدين في النصوص، ومسالكهم في قبولها وردها وتفسيرها.

وذكر لي مرة أنه جمع للشيخ الألباني رحمه الله أوهاما في الأسانيد والمتون قيدها ولم يتهيأ له تصنيفها مفرداً، وكان يذكر الألباني بالعلم لكنه يوصي بعدم مطالعة مقدمات كتبه لما فيها من التعرض للفضلاء بسوء، ويذكر أصل اجتناب كلام الأقران وتنكبه.

ولما كنت أحضر مجلس شيخنا المحدث الدكتور نور الدين عتر الحلبي الحنفي رحمه الله في قراءة وشرح (السُّنبليات) وبلغ أول حديث من كتاب (تـهذيب الآثار) للإمام المجتهد محمد بن جرير الطبري، اعترضه بعض الحاضرين سائلا: أننا نجد الشراح كالحافظ ابن حجر وغيره، ينقلون تصحيح الطبري أحيانا في هذا الكتاب لحديث معين، ولا نجد لابن جرير تصحيحا فيه؟

فاستشكل الشيخ نور الدين هذا السؤال بعد تأمله فلم يظهر له الجواب، وسأل من كان حاضراً الشيوخ ومنهم الشيخ أسامة الأزهري، فلم يتجه لهم جوابه.

فقلت له: سيدي، لشيخنا العلامة عبد المجيد محمود جزء لطيف في هذا المعنى بعنوان (منهج الطبري في التهذيب تصحيحا وتعليلا) وقد ذكر فيه أنه استقرأ تصرف الطبري فيه، فوجد أن شرطه فيه أن أول حديث يخرجه فهو صحيح عنده، وإن لم ينص أحينا على صحته، ثم يستطرد في سوق طرقه وبيان عللها واختلاف النقلة فيه، على طريقة النسائي.

فتهلل وجهه، وانحدر يذكر الدكتور عبد المجيد بكل جميل، وذكر أنه صديق عزيز عليه، وأنه رافقه في التدريس بالأردن، ثم طلب مني تصوير نسخة من هذا الجزء، فانتسخته له.

على أنه ذكر أن سبب تصنيفه هو ما سمعه من أستاذه العلامة محمود شاكر رحمه الله، أنه كان يستشكل قول ابن جرير: (إن هذا الحديث صحيح الإسناد عندنا، وقد يكون عند غيرنا ضعيفا لعلل) ثم لا يشير إلى هذه العلل! فانتدب الدكتور عبد المجيد للفحص عن معنى قول الطبري، وطالع على هذا كتاب (التهذيب) غير مرة.

وللدكتور عبد المجيد يدٌ عليَّ غير ما منَّ الله به علينا من التلمذة على يديه والتأدب بأدبه والانتفاع بسمته وهديه، وذلك أن بعض الأساتذة رماني بانتحال رسالته في الدكتوراة، في رسالتي (علل الأصوليين) فانتدب العلامة عبد المجيد لرد هذا الفرية، وذكر للقسم أنه طالع رسالتي وهو قد طالع رسالة الأستاذ المذكور لأنه كان مشرفا عليه، فلم يجد أي انتحال ولا سرقة، ثم أثنى على رسالتي وانتفعت بمناقشته كثيراً حتى أني قبل طبع الرسالة أعدت النظر فيها على وفق توجيهاته وفوائده وبقيت تسعة شهور في تنقيحها.

وفي يوم المناقشة حضر وهو موعوك، وقال لي ممازحا: الظاهر أن سرَّك باتع! فلان الدكتور رماك بالانتحال فلم يفلح، وفلانة الدكتورة كذلك، وها أنا مريض وقد وطَّنت نفسي لمناقشتك في ساعات، لكن يبدو أن الوعكة ستحول دون ذلك.

وبعد: فقد كان هذا العالم الفذ أمة وحده، كثير الخشوع صاحب أذكار وأوراد، يوصي بكتاب الله ويستظهره، ولما ذكرته لأستاذنا الدكتور يوسف الفرت، قال لي: عهدنا بالدكتور عبد المجيد شيخنا كعهدنا به أيام الطلب، لم يزد عليه إلا الشيب!

وفي مثله ينشد ما أنشده المتنبي في أم سيف الدولة:

صلاةُ الله خالقِنا حنوطٌ ....... على الوجه المكفَّن بالجمالِ

على المدفون قبل التُّرْب صونا ... وقبل اللحد في كرمِ الخِلَالِ

سقى مثواكَ غَادٍ في الغوادي ... نظيرَ نوالِ كَفِّك في النوالِ

أُسائِلُ عنكَ بعدك كلَّ مَجْدٍ ... وما عهدي بـمَجْدٍ عنكَ خالي

رحم الله هذا الأستاذ وأحسن عزاء المسلمين والعلم وأهله في رحيله، والحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد وآله.