من مآثر العلامة الشيخ محمد الحامد الحموي رحمه الله (2)
بقلم / د. خلدون عبد العزيز مخلوطة
 
الورع كان له سجية وفطرة دينية:
تحقيق التقوى في سلوكه ، ظهر جليا في ورعه ، فكان مظهرا بارزا في تعاملاته ، وهذا مشهد حي ينقله لنا الدكتور عبد الرزاق الكيلاني رحمه الله في كتابه "الشيخ عبد القادر الكيلاني الإمام الزاهد القدوة" يقول: (كنت موظفاً في المستشفى الوطني في مدينة حماة ، وكانت سيارة دائرة الصحة تأتي كل صباح لتحملني مع باقي الأطباء إلى المستشفى ، وفي أحد الأيام ، ونحن ذاهبون إلى المستشفى بالسيارة رأيت الشيخ محمد الحامد رحمه الله يسير في اتجاه سيرنا ، فطلبت من سائق السيارة أن يقف لنأخذ الشيخ معنا ، فوقف ، وفتحت باب السيارة وقلت للشيخ : تفضل يا أستاذ لنأخذك معنا فنحن نسير في اتجاه سيرك نفسه، فقال: هل السيارة لك ، قلت : لا ، إنها لدائرة الصحة ، قال : إذن لا أركب معكم ، قلت : لماذا ؟ إننا سائرون في اتجاه سيرك نفسه، قال: أليس لي وزن ؟ ، وإن وزني سيجعل السيارة تصرف كمية أكبر من البنزين ، لذلك لا أستطيع أن أركب معكم ، وشكرنا وسار في طريقه)
ورع في الحياة وبعد الممات
موقف أوقفني الله عليه يدل على دقة الشيخ في النقل ، وبعدٌ عن الدعوات العريضة، وتنزه عن أن يوصف بما ليس فيه ، وتهذيب للنفس فقد تشعر بالراحة عندما تذكر بالمقامات العالية ، والهبات الجليلة ، لهذا كتب رحمه الله ليصحح ما كُتب عنه لرؤيا منامية نقلت عنه ، وكأن الله أراد أن يظهر للشيخ مأثرة من ورعة في حياته وبعد مماته.
بين يدي كتاب جميل للشيخ عيسى البيانوني الحلبي رحمه الله وهو من شيوخ العلامة الشيخ محمد الحامد بعنوان (فتح المجيب في مدح الحبيب ) ، وفي آخره ملحق بعنوان : (غاية المطلوب في رؤيا المحب للمحبوب ) تحدث فيه الشيخ عيسى بما منَّ الله به عليه من رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم وعظيم حبه له والتعلق به ، ثم أتبعه كذلك ولده الشيخ أحمد الصياد عز الدين رحمه الله في آخر الكتاب ما أكرمه الله من مرائيه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكتاب أتت به زوجتي الكريمة أم عز الدين من مكتبة والدها رحمه الله في حماة ، وكان والدها تربطه صلة قرابة بالشيخ محمد الحامد ، وأشرف على مكتبته بعد وفاته ، وعند قراءتي للكتابين ، وإذا بي أقف على تحفة أثرية من آثار الشيخ محمد الحامد رحمه الله ، بخط يده الشريفة ، مُعلقاً ومُصححاً ،  تدل على قمة الورع ، والبعد عن حظ النفس ، والحرص على الدقة في النقل حتى لا يصفه الناس بما ليس فيه، وحذرا من أن يقع في وعيد النبي صلى الله عليه وسلم  "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" متفق عليه، مع أنه لم يدع هذا لنفسه ، وادعاه غيره له ، فعقب عليه بيده ، وإليكم الأصل وما علق عليه الشيخ محمد الحامد رحمه الله.
1-   يقول الشيخ أحمد الصياد عز الدين البيانوني : (ورأى الأخ الحبيب في الله ، الأستاذ الجليل الشيخ محمد الحامد عالم حماة وفقيهها – أكثر الله في المسلمين من أمثاله – رأى أن شيخنا – أي الشيخ أبو النصر خلف- رحمه الله تعالى دخل به ، وبمجموعة من إخوانه على النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعرف منهم سوى أخيه الضعيف أحمد الصياد عز الدين البيانوني) .
2-   وإذا بالشيخ محمد الحامد يضع تعليقا بخطه المبارك فيقول : (في هذا الخبر وهَم – يضع فتحة على الهاء – والذي عقلته من الرؤيا ، أن الشيخ عيسى - البيانوني – تناولني من شيخنا – أبو النصر خلف - ، في زمرة منهم ولده الشيخ أحمد ، فأوقفنا على شباك ، وقع لي أنه شباك الحجرة النبوية ) ويوقع بجانبه محمد الحامد .
 فانظر إلى هذا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم والتقوى، فهو لم ير أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وقف على شباك ، ثم لم يقع أنه شباك الحجرة النبوية فقال (وقع في نفسي أنه شباك الحجرة النبوية)، فبالوقوف عند الحدود عظم مقدارهم عند الله ، ورفع شأنهم بين عباده.
 
لو استطعت أن أمر حفظتي بالصلاة على النبي صلى الله وعليه وسلم ، لفعلت: 
 
مما يدل على وَلَعِهُ بالصلاةِ على النبيِّ صلى الله وعليه وسلم وحبه له ، أن أحد المشغوفين بحب النبي صلى الله عليه وسلم من أهالي بيروت، استأذنه لإقامة مجلس شريف للصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله وعليه وسلم ، فأجاب رحمه الله وهو يعاني آلام المرض في المستشفى: (لو استطعت أن أمر حفظتي – يعني الملائكة الموكلة بحفظه - بالصلاة على النبي صلى الله وعليه وسلم ، لفعلت)  .
 
شغفه بتدريس السيرة النبوية:
كان رحمه الله مشغوفاً بالسيرة الشريفة، مولهاً بدرسها وتدريسها، ولا عجب في ذلك، فحبه لها تعبير عن حبه العظيم لرسول الله صلى الله وعليه وسلم فقد وصل رحمه الله في طريق محبة الرسول صلى الله وعليه وسلم إلى نهاية ما بعدها نهاية، والى قمة ليس فوقها قمة، وشرب كأس المحبة كله فما أبقى منه شيئاً . الشوق إلى الله تعالى والى رسوله صلى الله وعليه وسلم مركبه، ما أنس إلا به، وما سعد بسواه، وما أكثر دموع الشوق التي ذرفها في هدآت الليل وفي الخلوات والجلوات! وما أعظم الآهات والزفرات التي صدرت من ذلك القلب التقي النقي المرهف الشعور والإحساس! . 
 

وكان رحمه الله، يتخير من كتب السيرة ما كتب بعقل مؤلفه وقلبه، حتى يتوفر له تحقيق العالِم، وعاطفة المحب الصادق .
تركَ حجَّ النفلِ ليسدَّ حاجةَ الناسِ إلى المعلمِ والمفتي :
ولقد حج رحمه الله مرة واحدة في حياته، وكان يتمنى الحج والزيارة كل عام، لكن ورعه وتقواه منعاه من تحقيق أعز أمانيه، كان يقول: (كيف أذهب إلى الحج وأترك البلد خالية ليس فيها من يفتيها، ويحل قضاياها الشرعية، بعد أن ذهب معظم العلماء الى الحج؟ كيف أذهب إلى حج النفل، وأترك طلابي في المدرسة، وهم أمانة في عنقي، أُسأل عنهم أمام الله تعالى؟!).
لقد بلغ رحمه الله من رهافة حسه ودقة شعوره، أن أوصى كل من أراد الحج، ألا يأتي لتوديعه، يخشى رحمه الله ألا يتحمل قلبه هجمات الشوق، ودفقات الحنين ، ولما أُحيل على التقاعد بطلبه، كان يمني نفسه بالحج والزيارة، ولكن المرض ما أمهله، وقضى رحمه الله، واللوعة تأكل قلبه، وحرقة الشوق تذيب فؤاده 

 
فراسة وحسن تعامل حسب طبيعة من يتعامل به:
 
 
حدثنا الشيخ بشير حفظه الله نقلا عن الشيخ محمد الحامد ، أنه عندما صدر قرار الإعدام على الشيخ مروان حديد وخمسين من إخوانه في عهد الرئيس أمين الحافظ ، ذهب الشيخ مع مجموعة من علماء حماة لالتماس العفو عنهم من رئيس الدولة، وعند وصوله للقصر الجمهوري ، قال الشيخ لمن منعه من المشايخ : (إن الرئيس أمين الحافظ صاحب نخوة و (زكرت )، وسأقوم بعراضة أمامه ، فرددوا خلفي ما أقول ) ، وعندما خرج الرئيس لاستقبالهم ، أخرج الشيخ منديله من جيبه ، وصار يهتف بهتافات أثارت نخوة الرئيس وحميته ، والمشايخ يرددون خلفه ، فوعدهم الرئيس بتلبية طلبهم ، فلم يعودوا إلا وقرار العفو معهم

رحمه الله وعوض الأمة من أمثاله