مختارات من تفسير ( من روائع البيان في سور القرآن ) (الحلقة 208)

﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ٢٤٩﴾ [البقرة: 249]

السؤال الأول:

ما اللمسة البيانية في قوله تعالى في سورة البقرة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ ولماذا جاءت صيغة الطعام مع النهر الذي فيه شراب؟

الجواب:

  (طَعِمَ) لها في اللغة دلالتان: تأتي بمعنى: أكل أو ذاق، ونقول عديم الطعم، أي: عديم المذاق.

وليس بالضرورة أنْ تكون (طَعِمَ) بمعنى (أكلَ )؛ لأنها كما قلنا قد تأتي بمعنى ذاق، وقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ لا تعني بالضرورة أنه أكل .

لكنْ لماذا اختار ﴿وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ ولم يقل: (ومن لم يشربه)؟

 قوله تعالى: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي ؛ لأنّ الماء قد يُطعم إذا كان مع شيء يُمضغ، شيء تمضغه فتشرب ماءً فأصبح يُطعم، وهذا ممنوع حسب طلب طالوت؛ لأنه لو قال: (لم يشربه) جاز أنْ يطعمه مع شيء آخر بأن يأكلوا شيئاً ويمضغوه ويشربوا الماء معه، وبهذا يكون الشرب قد انتفى لكن حصل الطعم، فأراد تعالى أنْ ينفي هذه المسألة.

فقوله تعالى: ﴿لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ معناه أنْ ينفي القليل وبالتالي ينفي الكثير.

وقوله تعالى: ﴿فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي أي شراب فقط بدون طعام كما نشرب الماء.

وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ هذه استثناها ﴿غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ ولو قال: يطعمه، لم تُستثنَ هذه ويكون له ما يشاء.

لكنْ ألا تدخل هذه في نطاق الطعام؟ إنه يطعم الماء ليتذوقه، والآن تذوقه بهذا القدر وليس له الزيادة فوق التي أباحها الله فيه.

السؤال الثاني:

ما دلالة استخدام ﴿بِنَهَرٖ   بفتح الهاء في الآية ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ [البقرة:249] ولم يقل: (نَهْرٍ) بسكون الهاء؟

الجواب:

هما لغتان: نَهَرٍ ونهْرٍ، والقرآن استعمل (نَهَرٍ) ولم يستعمل (نَهْر) أبداً، والنَّهَرٌ: جمع أنهار، وأحياناً يستعمل القرآن الجنس الواحد على معنى الكثير. النَّهَر واحد الأنهار، والنهْر واحد الأنهار أيضاً.

السؤال الثالث:

ما الفرق بين الطاقةِ والقِبَل، كما في الآيات ﴿قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ   [البقرة:249] و ﴿ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا [النمل:37] ؟

الجواب:

الطاقة: هي القدرة والقوة، كما في قوله تعالى: ﴿قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ أي: ليس عندنا قوة ولا قدرة أصلاً.

القِبَل: هي القدرة على المقابلة والمجازاة على شيء، تقول: أنا لا قِبَل لي بكذا، ولذلك قال القرآن رواية عن سليمان عليه السلام: ﴿ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا [النمل:37] أي: لا قدرة لهم عليها، لا قدرة لهم على المقابلة، لا قدرة لهم على مقابلتها بالرغم أنّ قوم بلقيس هم أصحاب قوة، وقالوا: ﴿ قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ [النمل:33] أي: عندهم قوة وعندهم بأس في الحرب يستطيعون المقابلة، فردّ عليه سليمان عليه السلام: ﴿ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا [النمل:37] أي: لا يستطيعون أنْ يقابلونا من البداية.

 

السؤال الرابع:

ما الفرق بين الظن واليقين؟ وما دلالة ﴿يَظُنُّونَ في الآية؟

الجواب:

اليقين يرتقي إلى درجة العلم كما في قوله تعالى في القرآن الكريم ﴿ فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ١٩إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ٢٠ [الحاقة:19-20] هل كان شاكّاً؟ لا.

ولذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ [البقرة:249] ﴿ يَظُنُّونَهنا يعني: يوقنون بلقاء الله تعالى.

الظنُّ درجات، وهو يعتري الإنسان من دون أي دليل، ثم يقوى بحسب الأدلة إلى أنْ يصل إلى اليقين .

 لكن أهل اللغة يقولون: إنّ الظن هو عِلْمُ ما لم يُبصر، وأنت لا تقول: (ظننت الحائط مبنياً) ؛ لأن الحائط من الأشياء التي تُرى وتُبصر، وإنما الظن علم ما لم يُبصر .

ولا تقولُ: أظن أنْ الحائط مبنيٌّ، وهو أمامك، ولا يصح هذا التركيب، لكن تقول: أظنُّ أنّ وراء الحائط فلاناً، هذا أمر آخر يجوز فيه الظن. ولذلك قالوا: الظن درجات حتى إنه يصل إلى اليقين.

لمزيد من المعلومات حول الفعل ( ظنّ) انظر آية البقرة 46.

السؤال الخامس:

قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ٧٠   [البقرة:70] ما الفرق في الاستعمال بين: ( إنْ شاء الله ) وبين ( بإذن الله ) في القرآن الكريم؟

الجواب:

انظر الجواب في آية البقرة 70 .

السؤال السادس:

ما أهم دلالات الآية ؟

الجواب:

1 ـ أعدّ طالوتُ العدة للحرب ، وقال لهم : لا يصحبني من كان مشغولاً بأمر من أمور الدنيا مهما كان ، فلا أريد أن يخرج معي إلا من تجرّد للجهاد في سبيل الله ، وقيل اجتمع له حوالي ثمانين ألفاً .

2 ـ قوله تعالى : ﴿فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ    أي انفصل وفارق بهم حدّ بلدهم ، ومعنى الفصل القطع ، يقال : قولٌ فصل ، إذا كان يقطع بين الحق والباطل ، ويقال للفطام فصال ؛لأنه يقطع عن الرضاع . والجنود جمع جند .

3 ـ قوله تعالى : ﴿قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ     المُراد أن يختبرهم قبل لقاء العدو ليتميز من يصبر على الحرب ممن لا يصبر، وليتعودوا الصبر على الشدائد .

4 ـ ( نَهْر ) و( نَهَر) بتسكين الهاء وتحريكها لغتان ، وكلُ ثلاثي حشوه من حروف الحلق فإنه يجيء على هذين ، كقولك : بحْر وبَحَر ـ صخْر و صخَر .

5 ـ قوله تعالى : ﴿لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ  أي لم يذقه ، وهو من الطعم  ، وهو يقع على الطعام والشراب ، ومعناه أنْ ينفي القليل وبالتالي ينفي الكثير.

6 ـ قرأ ابن عامر وعاصم والكسائي ﴿غُرۡفَةَۢ  بضم الغين على أنها اسم للماء المغتَرَف ، اسم مفعول، وقرأ الباقون بفتح العين على أنها مصدر مرّة ، والدنيا كالنهر الذي ابتلي به جند طالوت من أخذ منها قدر حاجته يقنع، ومن زاد على حاجته فلن يشبع.

7 ـ قوله تعالى : ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ   لا خلاف بين المفسرين أنّ الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ، ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله في أمر الشرب من ماء النهر .

8 ـ قوله تعالى : ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ٢٤٩  أي الذين يعلمون ويوقنون ، إلا أنه أطلق لفظ الظنّ على اليقين على سبيل المجاز . و( الفئة ) الجماعة ، يقال : فأوت رأسَه بالسيف ، إذا قطعت ،  والفئة : الفرقة من الناس ، كأنها قطعت منهم

9 ـ قوله تعالى : ﴿وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ  أي بحفظه وتأييده ورعايته .

10 ـ عوامل النصر المذكورة في هذه الآية بعد إتمام إعداد العدّة هي :

آ ـ الثبات أمام العدو وعدم الفرار .

ب ـ الإكثار من ذكر الله .

ج ـ طاعة الله والرسول .

د ـ وحدة الكلمة وعدم الشقاق والتنازع .

هـ ـ الصبر والمصابرة في لقاء العدو.

11 ـ قوم طالوت خرجوا وهم ألوف فلم يزالوا بالابتلاء والتصفية حتى صاروا  على عدد أهل بدر، فليست العبرة (بالكثرة) إنما العبرة (بالصفوة)، وميزان التقوى يغلب ميزان القوى .

12 ـ في قصة طالوت طائفة اقترحت ملكاً لقتال المحتلين ، وطائفة اقترحت تغيير الملك ، وطائفة خالفت أمر الملك وشربت من النهر ، وطائفة اجتازت ، وطائفة حذرت من قتال العدو ، ولم ينفع من كل هذه الطوائف إلا طائفة واحدة : ﴿ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ .والله أعلم .

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين