من ذكرياتي مع شيخِنا الكامل محمد أمين مشاعل رحمه الله

ومثلُه يُنسى... أو مثلُه يُسْلَى ؟

حنينٌ إلى الماضي الآفِل

عن نفسي أتحدث: جميعُ أشياخي ذَوو فضلٍ عليَّ ومِنَّةٍ...وكلُّ أساتذتي لهم عليَّ يَدٌ ونعمةٌ...

لهم أيادٍ عليَّ سابغةٌ *** أَعُدُّ مِنها ولا أُعَدِّدُها

وأسألُ اللهَ لمن رحل منهم عن دنيانا مغفرةً وإحساناً، ولِمن لازال على قيدِ الحياة صحةً وعافيةً وطولَ عُمُرٍ وأمْناً وأماناً ...

ولكن يبقى يتمايز بعضُهم عن بعضٍ ... لا لِذَاتِهم فكلُّهم في الفضلِ سواءٌ ... ومن أعيانِ النبلاءِ... بل لقربي من بعضِهم وبُعدي عن الآخرين .. ولطول العهدِ بأحدِهم دونَ الباقين ... وغير ذلك من المرجحات... (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ) [الرعد: 4].

ومن أشياخي الذين لا تبلى ذِكراهم على الدَّهر، ولا تُنكر أفضالُهم مَدى العُمر، ولا يذكرون إلا بكل خيرٍ ... شيخُنا العلّامة النحويُّ الأديبُ الأريبُ المنطقيُّ محمدُ أمينُ مشاعل أبو العلاء ... الذي تحينُ ذكرى رحيله الخامسة عشر اليوم ( ت 20/6/2006م) ... ولا زالتْ كلماتُه تَطِنُّ في أذناي ومداعباتُه لي ولزملائي ترَدَّدُ في جنباتِ نفسي :

يا سيِّد: ( قبل المناداة بالاسم الخاص )...

يا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى أَبَداً *** أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى فَنَمِ: ( لمن كان الكرى يداعب أجفانه في درس النحو أو البلاغة أو العروض) ...

فَبُحْ باسْمِ من تهوى، ودعني من الكنى ***فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر: ( لمن لم يُفصح عنْ مرادِه في سؤالِه، أو لم تسعِفْه العبارةُ في الإعرابِ عما في نفسِه ) ...

إنَّ المُحِبِّ عَنْ العُذَّالِ في صَمَمِ: ( يقولها لمن يشكو مضايقة زميله إياه باليد أو اللسان ) ...

وهكذا كان كلامُه أدباً ... وفعله أدباً... بل كان كله أدباً رحمه الله .

وكان رحِمَه اللهُ حريصاً علينا إفادةً وتعليماً، حتى إنَّه كان يُضَحِّي بالفُرْصةِ (الراحة) واقفاً على قدميه رافضاً الاستراحةَ في غرفةِ المديرِ ... ولا يتردَّدُ أنْ يقول: لا ؛ لِما لا يعلمُ من مسائلِ العربيةِ وفنونِها.

وكان يلتمسُ الأعذارَ لكلِّ أحدٍ ( والكريمُ من يعذُر ) ... وبخاصةٍ إنْ كان يتصلُ بالسيِّدِ النبهانِ بصلةٍ ...

وكم عجِبْنا منه حينما خَرَّجَ قولَ المنشد محيي الدين الأحمد رحمه الله:

يا ليتَ الصبحِ ما بانا *** كي لا يرانا إنسانا

فقال : جَرَّ المنشدُ الصبحَ على حذف مضاف تقديره: ضوءُ الصبح، أما انتصابُ (إنسانا ) فعلى التخصيصِ أو على تقدير أقصدُ.

وكان لا يدَّخِرُ عن أحدٍ من طلابه ما ينفعُه من معلومةٍ أو خبرٍ أو حتى كتابٍ ... وقد سألَه مرَّةً أخي ورفيق دربي الشيخ عبد الكريمِ نبهان حفظه الله عن كتابٍ عن الإمام الجوينيِّ اسمه ( الجوينيُّ إمامُ الحرمينِ ) للدكتورة فوقية حسين محمود، وهو من أقدمِ ما كُتِبَ عن أبي المعالي فقال: هو عِندي، قالَ : أستاذنا، هل يمكنُ استعارتُه منكم، قال : نعمْ، بكلِّ سرورٍ، غداً آتيك بهِ، وفي الصباحِ التالي دفع إليه بالكتابِ، وكأني الآن أراه بغلافِه الأخضرِ بين يَدَي الشيخ عبد الكريم نبهان ... يقلِّبُ صفحاتِه بكلِّ رفقٍ وحنانٍ.

وكان لا يُسَفِّهُ رأياً، وإنْ كان مرجوحاً بيَّنَ وجهَ مرجوحِيَّتَه بكلِّ لطفٍ وظَرْفٍ.

ولم يضربْ طالِباً قطُّ ... ماعدا واحداً ممن همْ من الأفواجِ التي بعدَنا ... فقَدْ نقل إلينا أنه تثاقلَ على أستاذِنا حتى الثُّمالة، وكلما ترَفَّعَ عنه أستاذُنا زادَ صاحبُنا إلحاحاً ببرادَتِه، فما كانَ مِن شيخنا إلا أنْ لَطَمَه، ودفعَ به خارجَ الفصلِ ... ولو كنتُ مكانَ شيخِنا لمارستُ عليه كلَّ فنونِ الكاراتيه... فهذه هي المرةُ الوحيدةُ فيما أعلمُ.

وكان لا يَسمحُ بالانتقاصِ من زملائِه المُدَرِّسينَ، ولا يَغُضُّ من منزلتِهم، وإن نُقل إليه شيء غريبٌ عن واحدٍ منهم تلقَّاهُ بالقولِ : إنْ كانَ قالَها فقد صَدَقَ.

وكان يشجعُ كلَّ مُجِدٍّ، ويُثني على كلِّ ذِي جهدٍ، ويوجِّهُ إلى الأفضلِ بكلِّ حُسْنِ تَأَتٍّ، واسألوا إنْ شئتم أخي الشاعرَ الشلَّالَ أسامةَ محمد آل زكي.

من هنا أحبَّه طلابُه، وتسابقوا إلى التعبيرِ عن مكنونِ أنفسِهم نحوَه، فهذا أخونا الشاعرُ الشلَّال ( أنا مَن خَلَعَ عليه هذا اللَّقبَ ، وهو أهلٌ له وجديرٌ به ) أسامةُ محمد آل الزكي :

هبَّ النسيمُ على الأكوانِ يا أممُ *** هيا انظروا مَنْ بَدا، فالدهرُ مبتسمُ

قوموا رفاقي لِكُفءِ العلمِ في أدبٍ*** حاوي المآثِرِ منه تَنْبعُ الشِّيَـــــمُ

حيَّا الإلهُ ( أميناً ) ثمَّ بارَكَــــــــه *** إنَّ الإلهَ لأهلِ العــــلمِ يَحْتــــَرِمُ

وذاك أخونا الشاعر حمدو الأحمد يقول :

إن شئتَ أنْ تنجو مِنَ المهالكِ *** في النطقِ فاقرأْ( أوضح المسالك)

فابنُ هشامٍ عالـــــمٌ نحريــــرُ *** ليسَ له في فَنِّـــــــهِ نظيــــــــــــــرُ

لا سيَّما إذ شرحُه مبيـــــــــنُ *** يرويــــــــــه فردُ عصرِه ( أمين )

وكان رحمه الله يبني ولا يهدم ، ويرفع ولا يُسَفِّلُ، ويَرِيش الجناح ولا ينكأُ الجراح

فَــهُـوَ الَّـذِي يَـبْـنِـي الـطِّـبَـاعَ قَـوِيـمَـةً *** وَهُــوَ الَّــذِي يَـبْـنِـي الـنُّـفُـوسَ عُـدُولَا

وَيُــقِـيـمُ مَـنْـطِـقَ كُـلِّ أَعْـوَجِ مَـنْـطِـقٍ *** وَيُـــرِيــهِ رَأْيًــا فِــي الْأُمُــورِ أَصِــيــلَا

أذكر أنني في بعض إجازة من خِدمة العَلَمِ ( الجُندية - العسكرية ) عام ( 2003م ) قدَّمتُ له يوم الأحد بعد درس سيدنا النبهان رضي الله عنه قصيدةً أَذْكُرُ مِن أبياتِها :

هجرتْ بُثَيْنُ ومِثْلُنَا لا يُهْجَرُ *** وقستْ على قلبٍ بها يَتَفَطَّرُ

ولعلَّ ذَنْبِي أنَّني أحببْـــــــتُها *** فرأتْه ذنْباً عندَها لا يغفـــــرُ

أَوَ هكذا يجزيْ الحبيبُ حبيبَه*** رُوحُوا لها فَعَسى تَحِنُّ وتُقْصِرُ

هجرتْ بُثينُ وما هجرتُ وفاً لها ***إنَّ الكريمَ وإنْ نَّأى لا يَهْجُرُ

وعدتُ في درسِ الأحدِ التالي، ورغبتُ إليه في استرجاعِ القصيدة وملاحظاتِه عليها فأبى عليَّ ذلك، وقال: سأحتفظ بها لنفسي، قلت: وهل راقتْ لك سيدي؟ قالَ : كأنني أقرأ في بعض أبياتها نَفَسَ النابغةِ الذُبياني ... هكذا قال والله، فَطِرْتُ بذلك فَرَحاً، ولم يقلل من فرحتي بتلك الشهادة أنه ربما قالها تطييباً لخاطري أو جرياً على عادته في رفع الهمم وبناء النفوس وتنمية المهارات ، ولعلَّ أبناءَه الكرامَ يعثرون عليها بين أوراقه وكتبه رحمه الله.

وهكذا كانَ رحمه الله قريباً إلى كل قلبٍ... حبيباً إلى كل روح... حَظِيَّاً عندَ كلِّ فردٍ من طلابه، لذا كان رحيله أليماً وصعباً علينا...

واليوم – ويحَ اليوم – أتَذَكَّرُه فأتذكر اللطفَ والظرفَ ، والأدب والحياء ، والعلم والعطاء ، فأقول فيه رحمه الله :

كأنْ لِلتَّوِّ فقدُك في المَلَاءِ * له وقعُ الجديدِ مِنَ البلاءِ

ولو عرفَ الورى مَن أنتَ حَقَّاً * لكانوا شاركُوني في الرِّثَاءِ

وقد يُنسى المودَّعُ بعدَ حينٍ * ويُسْلِمُهُ الزَّمانِ إلى الفَنَاءِ

ولكنْ أنتَ في الوُجدانِ حيٌّ * ظفِرتَ بكلِّ أسبابِ البقاءِ

وما أكسبتُه فضلاً بِقولي * ولكنْ ألقي دلوي في الدِّلاءِ

ولستُ بمبدعٍ فيه ثناءً * فقد غَنِيَ( الأمينُ) عن الثَّناءِ

له الدعواتُ مني كلَّ يومٍ * وهذي حالُ مَنْ قاموا وَرائي

نُرَدِّدُ في المجالسِ ما ذَكَرْنَا* هُ ربِّ اجزِ الجِنانَ ( أبا العَلَاءِ)

رحمك الله سيدي وحبيبي أبا العلاء... رحمةً تملؤُ الأرضَ والسماء ... رحمةً تغنيك عن رحمةِ الأحبة والأبناء...