من استفاد من تيار الغلو في سورية؟

 

يتذكر الكثير من المتابعين للشأن السوري أن نظام الأسد وصم الثورة بالغلو منذ انطلاقتها، وقد كانت تهمة "العرعرة" ملازمة لكل مناهض لحكمه ولو كانت ممثلة مسيحية، أو مغنٍّ درزي، كما يجمع المتابعون أن الخطاب المدني للثورة استمر فترة طويلة، وأن تيار الغلو لم يبدأ بالتكون حقيقة إلا في 2013م، فمن استفاد من هذا التيار في الساحة السورية؟

يمكننا القول إن الثورة لم تستفد من هذا التيار، ذلك أن تيار الغلو حاول اختطافها وحرفها عن مسارها، بل إنه واجهها، ونكَّل برجالها، وأهان رموزها، وسلبها أرضها، ولم يحترم حاضنتها الشعبية، ثم إنه شوَّه صورتها، ومنح الحجج والمبررات لكل من هبَّ ودبَّ من الدول لرؤيتها حرباً عبثية لا حل إلا بإخمادها، وعلى هذا فالثورة من أبرز ضحايا هذا التيار.

كما يمكننا القول إن الغلاة أنفسهم لم ينتفعوا من غلوهم، فهم أول حَطَبه، ذلك أن الغلو يهلك أول ما يهلك صاحبه، وأن مشاريع الغلو هي مشاريع عدمية فالمغالي يستمرئ التورط في مسالك طائشة، ويغلق بوابة عقله أمام العلم الذي يمكن أن يبصِّره بالسلوك الصحيح، لأنه لا يرى في العلماء إلا مميعة، ويقتصر على ما فهمه خطأً، وهو بذلك يرفض الحق عنادا واستعلاء وهذه من أخسر الصفات، لأن العنيد يأبى الانقياد للحق، ويؤثر إرضاء هوى نفسه.

والغلو بالأصل هو انحراف سلوكي، وعدم نضج فكري، يتغرَّب الفرد عن ذاته وفطرته قبل أن يتغرَّب عن مجتمعه ومحيطه، "ويعاد بناؤه من جديد بفكر وسلوك مختلفين، ويفقد بذلك النظر للألوان المختلفة، فلا يكاد يرى إلا الثنائيات كالأبيض والأسود، والمؤمن والكافر"

والغلو ظاهرة، بمعنى أنه يظهر إن توفرت أسباب ظهوره، ويغيب إن غابت، ولا شك أن ظاهرة الغلو قد تنتعش فترة من الزمن، لكن الموت مصيرها المحتوم لأنها تحمل في بنيتها كامل عوامل السقوط، وقد أثبتت الوقائع منذ ظهور الخوارج وحتى يومنا هذا أن التيارات المتشددة لم تحل قضية أبداً، بل على العكس، فإنها تزيد الخلاف، وتوسع دائرة الصراع، وتستبيح دماء الأصدقاء قبل الخصوم، ومع ذلك فلم يسجل لنا التاريخ أنها حسمت معركتها في فترة ما، أو استقرَّ لها الأمر في بلد ما.

لا شك أن نظام الأسد هو الرابح الوحيد من تيار الغلو، ذلك أن إرهاب الدول الديكتاتورية قد يُتغاضى عنه، لكن تيارات الغلو لا يغض عنها طرف القوى الكبرى، فسعى الأسد جاهدا للقضاء على التيار المدني الثوري، لخلق هذه المعادلة أي إما القبول بإرهابه وإما "إرهاب معارضيه"، ويبدو أن العالم يتجه لمباركة إرهابه وحمايته، ضمن هذه المعادلة غير الأخلاقية، بالرغم من أن إرهاب الدول والأنظمة سابق على إرهاب الجماعات، هذا إذا لم نقل إنه صانع لها أصلاً.

إن تيارات الغلو، هي تيارات خدمة وظيفية، أدركت ذلك أم جهلت، ولا حل إلا بهجران الغلو، والإقبال على طلب العلم والوعي من أهله، لذلك فمما يجب أن ينتبه له الحريصون اليوم، هو الاهتمام بالأنشطة التي تُعنى بالرباط على عقول الشباب، فتبين لهم صحيح الأفكار من سقيمها، وفي الساحة اليوم نماذج مشرِّفة، كما هو الحال في حي الوعر بمدينة حمص، وفي الغوطة الشرقية بريف دمشق، حيث تنشط النوادي الفكرية التي تسعى لترسيخ المعارف الصحيحة، وحراسة المفاهيم من التحوير والتزوير، وهذه التجارب ينبغي أن تعمم، ويستفاد منها في مناطق أخرى.

إن الناظر في تعاليم الإسلام يجد أنه من القواعد المطردة «أينما وجد الغلو وجد ذمه»، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}، وفي الحديث: «إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ». 

والوسطية كما أشار لها القرآن الكريم هي رمز لهذه الأمة الوسط، {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، فالوسطية فضيلة بين رذيلتين، رذيلة الإفراط، ورذيلة التفريط.

والإسلام دينٌ وسط يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم ويُحَذِّرها من الخطوط المنحرفة يمينًا والمنحرفة يسارًا، وأمة الإسلام هي أمة العدل والاعتدال، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم، ومن كان هذا حاله فأنى لطاغية أن يستفيد منه، وأن يستخدمه! إنه أوعى من ذلك بلا شك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين