من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم

التقديم للبحث:

فقد شغلتني أسرار الحروف في الذكر الحكيم، منذ أن سجلت رسالتي لنيل درجة العالمية (الدكتوراه) في البلاغة والنقد، تحت عنوان: (الواو ومواقعها في النظم القرآني)، وتوصلت من خلالها إلى أن دراسة الحروف دراسة بلاغية لا تزال تضيق عنها مناهج البحث البلاغي، كما استقرت في علوم البلاغة لدى المتأخرين.

وإذا كانت الواو قد وجدت بعض الاحتفاء في مواقعها من باب الفصل والوصل، فإن غيرها من بقية حروف العطف لا يزال ينتظر حظه من الدراسة في مباحث لا تحكمها هذه المناهج.

ويمثل ذلك أفول في حروف الجر التي لم تجد طريقها إلى الدراسات البلاغية، إلا من خلال استعارة الحروف، وفى أمثلة تعد على أصابع اليد الواحدة تاهت في زحمة تطبيق قواعد الصناعة عليها أسرار التجوز فيها، واختفى في أطواء المذاهب المختلفة ما تشيعه حولها من دلالات وإيحاءات.

وإذا كان المنهج الذي اختطَّه ابن الأثير والعلوي في كتابيهما: (المثل السائر) و(الطراز) في تناول مسائل البلاغة، لم يحل دون التعرض لخطر درسها، والكشف عن أسرار الإعجاز من خلالها، فإن ذلك لم يتعدَّ بضعَ أمثلة مما بثَّه صاحب الكشاف في تفسيره، ونبهت إليه بعض الدراسات التي دارت حوله.

ولا تزال جهود الزمخشري وغيره من المفسرين مما تناثرت حياته في ثنايا النظم القرآني، بحاجة إلى من يتتبعها، وينعم النظر فيها، ويكشف أمثالها، مما لم يتعرَّضوا له، في دراسة مستوعبة تجمع النظير إلى النظير، وتوازن بين مشتبه النظم الكريم، مما اتحدت ألفاظه أو تقاربت واختلفت حروف الايصال فيه، هادفة من وراء ذلك إلى الكشف عن مواطن البلاغة وضروب الإعجاز، غير متوقفة عند تأويلات تستهدف بيان صحة الأساليب دون أن تتجاوزها إلى ومضات الحروف، أو محصورة في عدد من الأمثلة مما تعلق به النحاة ورجالات البلاغة.

وغنى عن البيان أن الكتب التي تفرَّدت بالبحث في دراسة حروف المعاني، وحظيت حروف الجر فيها بمساحات لا بأس بها، وهي كثيرة، مثل: «كتاب حروف المعاني» للزجاجي، و «الأزهية في علم المصروف» للهروي، ورصف المباني في شرح حروف المعاني» للمالقي..

أقول: إن هذه الكتب هي محض دراسات نحوية، تكشف عن معاني الحروف واستعمالاتها طبقا لمذاهب النحاة، وتتأول النصوص بما يصحح طرائق التعدية واللزوم كما تقتضيها طبيعة هذه الصناعة. لكنها لا تكشف عن أسرار هذه المعاني في مواقعها من سياقها، ولا تبحث في الدواعي التي من أجلها تفارق مواضعها.

ولا أبالغ إذا قلت: إن هذه الكتب تكاد تتكرر فيها نفس الأمثلة.. ولنفس المعاني، وإن اختلفت المذاهب بين القول بنيابة الحرف والتجوز فيه، وتضمين الفعل، وقد اتجهت بعض الدراسات الحديثة الى تناول الحروف بما يكشف عن أسرارها في الكتاب العزيز، مثل كتاب: من أسرار التعبير في القرآن حروف القرآن، للدكتور عبد الفتاح لاشين. وكتاب: نظرية الحروف العاملة ومبناها وطبيعة استعمالها القرآني بلاغيا، للدكتور هادي عطية مطر الهلالي. وكتاب: تناوب حروف الجر في لغة القرآن، للدكتور محمد حسن عواد.

إلا أن هذه الدراسات لا تفي بما نهدف إليه، إما لأن دراسة حروف الجر فيها قليلة، تناولت عدداً محدودا من الأمثلة في مشتبه النظم، واعتمدت على الكتب التي تخصصت في هذا اللون من الدراسة، كما هو الشأن في الكتاب الأول. وإما لأنها لم تزد عن سرد الأمثلة التي ترددت في كتب النحاة واللغويين والمفسرين كنماذج لتقارب الحروف، أو تضمين الأفعال، واكتفت بجمع الأقوال فيها مثل الكتابين الثاني والثالث، وإن نكن قد أفدنا منها كما أفدنا من غيرها.

لذلك فقد رأيت أن يقتصر هذا البحث على حروف الجر التي قيل إنها تتبادل مواضعها، وتتعاور معانيها، وتتبعتها في مواقعها من النظم القرآني في دراسة مستقصية، تتغيا الوقوع على أسرارها، والتسمع إلى همسها، وخاصة فيما يظن أنه موقع غير موقعها، أو أن غيرها يؤدي مؤداها، وصولا إلى مواطن الإعجاز فيها، لذلك توقفت طويلا عندما اشتبه نظمه من آيات الكتاب العزيز واختلفت حروف الإيصال فيه، بما يكشف عن دقائق الفروق، وما خفي من وجوه البلاغة.


تحميل الملف