من أحكام الحنيفية السمحة

أطفالنا والعبادة (13)

من أحكام الحنيفيّة السمحة

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

التكاليف الإلهيّة كلّها أمانات، يكلّف الإنسان بحسن رعايتها، وسيُسأل عنها يوم القيامة، ووجه عدّها أمانات: أنّها تشْترك مع الأمانة المادّيّة المعروفة في وجوب المحافظة عليها كما هي، وعدم التغيير أو التبديل في شيء منها، وأدائها متى طلبها صاحبها، كاملة غيرَ منقوصة، وأن يراعي المكلّف الأحوال الخاصّة لها، كما يريد الله تعالى من عباده، وكما يحبّ الله تعالى ويرضى..

 

وَإذ كانت التكاليف الإلهيّة أمانات، فهي ثقيْلة على النفس شديدة، وَإذ كانت شريعة الله تعالى حنيفيّة سمحة فهي ميسّرة على كلّ مكلّف لا حرج فيها، ولا إعنات، ولا تكليف فيها فوق الطاقة، وهذا ما يطبع شريعة الله كلّها ويميّزها..

 

وإذا أردتُّ أن أقدّم نمَاذج عن سماحة أحكام الشريعَة لضاق بي رحب القول والوقتِ والورق، ولكنّني ألمح إلماحات سريعة إلى بعضها، وقبل أن أقدّمَ بعض الأمثلة أحبّ أن أذكّرَ ببعض القواعد الأساسيّة، والحقائق المهمّة في هذا الباب، وهي ممّا امتنّ الله به على عباده، ومن خصائص هذا الدين ومزاياه:

 

1 ـ شمول التيسير ورفْع الحرج جميع جوانب الشريعة وأبوابها، وعدم اقتصاره على جانب دون آخر، والنصّ القرآنيّ: {.. هو اجتباكم، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.. (78)} الحج، يشمل الدين كلّه.

2 ـ ليس في شريعتنا تحريم شيء من الطيّبات عقوبة للناس، كما كان ذلك في شرائع سابقة، لظروف خاصّة.

3 ـ إنّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصُه، كما يكره أن تُؤتَى معْصيته.

4 ـ الأصل في التكاليف الإلهيّة أنّها معقولة المعنى، بيّنة الحكم والأهداف والمقاصد.

5 ـ أنّ التكليف الشرعيّ يدور مع الوسع والاستطاعة وُجوداً وَعدماً.

فمن النماذج في دين الله على التيسير ورفع الحرج:

1 ـ مشروعيّة قصر الصلاة، والجمع بين الصلاتين في السفر.

2 ـ مشروعيّة التيمّم، عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله.

3 ـ صلاة المريض على حسب استطاعته.

4 ـ بناء أحكام الطهارة، والحكم بالنجاسة على اليقين، والتيسير ورفع الحرج.

5 ـ مشروعيّة المسح على الخفّين، وعلى العصابة والجبيرة.

6 ـ الترخيص في الفطر في رمضان للمريض والمسافر، والمرضع والحامل.

7 ـ لا تكليف بالحجّ مع عدم الاستطاعة، وهي القدرة الماليّة والبدنيّة.

8 ـ التيسير في المعاملات الماليّة، وقيامها على تحقيق المصالح الشرعيّة الحقيقيّة للمكلّفين، ودفع المفاسد عنهم، والتيسير ورفع الحرج.

9 ـ والقاعدة العامّة في دين الله أنّ الأصل براءة الذمّة، والأصل في الأشياء الإباحة.

10 ـ ومن أعظم ما تتجلّى فيه رحمةُ الإسلام وتيسيره، ورفعه للحرج عن العباد: ما شرع من أحكام للرفق والرحمة بالنساء، إذ لم يكلّفهنّ الله تعالى بقضَاء ما يفوتهنَّ من صلوات بسبب الحيض أو النفاس، بينما كلّفن بقضاء الصيام، لأنّه لا يتكرّر كالصلاة، ورخّص لهنّ بالفطر في رمضان في حال الحمل أو الرضاع، إذا خفن على أنفسهنّ، أو الطفلِ أو الجنين، كما كفل الإسلام لهنّ العيش الكريم بما أوجب على الرجل من النفقة على المرأة، ولم تكَلّفْ بالنفقة على الرجل ولَو كانت غنيّة.

وعلى قَدرِ ما يفقه الإنسان دين الله وشرعه يزداد يقيناً وبصيرة أنّ هذه الشريعة مبناها على التيسير على العباد، ورفع الحرج عنهم، فلا يرضى التشديد على نَفسِه، ولا على أحدٍ من عباد الله، إذ ليس في التشديد مزيدُ تقوى أو استقامة، وإنّما هو التنطّع الذي يقود صاحبه إلى الغلوّ، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلَّم عن ذلك أشدّ النهي فقال: (هلك المتنطّعون) قالها ثلاثاً. رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه. وقد قام هدي النبيّ صلى الله عليه وسلَّم في كلّ شأن من الشئون على اختيار أيسر الأمرين مَا لم يكنْ إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه.. رواه البخاريّ 6/419 و 420، ومسلم برقم /2327/.

وكان صلى الله عليه وسلَّم يأمر بالرفق، ويحثّ عليه، وينهى عن العنف، وينفّر منه، ويقول: (إنّ الرفق ما وضع في شيء إلاّ زانه، وما نزع من شيء إلاّ شانه) رواه مسلم برقم /2594/.

 

فعلى الوالد والمرَبّي أن يغرس في نفس الطفل والناشئ هذا الفهم لسماحة الإسلام فيما شرع من التكاليف الإلهيّة والأحكام، وأنّها في طاقة المكلّف ووسعه، ولا يقصد بها إرهاقه ولا إعناته، وإنّما هي سرّ إصلاح الحياةِ الإنسانيّة ورقيّها وتهذيبها، وهي سرّ سعادة الفرد وفلاحه في الدنيا، وفوزه ونجاته في الآخرة..

 

ومن ثمّ فليس من تقوى الله والتمسّك بدينه أن يشقّ المكلّف على نفسه، ويكلّفها ما لا طاقةَ لها به.. ويظنّ أن ذلك يقرّبه إلى الله أكثر: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)} النساء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين