من آداب التعزية

قال الإمام النوويّ رحمه الله في كتابه: " الأذكار ": " واعلم أنّ التعزية هي التصبير، وذكر ما يسلّي صاحب الميّت، ويخفّف حزنه، ويهوّن مصيبته، وهي مستحبّة، فإنّها مشتملة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، داخلة في قول الله تعالى: { وتعاونوا على البرّ والتقوى.. (2) } المائدة، وهذا من أحسن ما يستدلّ به في التعزية.

 

أقول: وأخصّ ممّا استدلّ به الإمام النوويّ رحمه الله على التعزية، ما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاباً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، أَوْ كَشَفَ سِتْراً، فَإِذَا النَّاسُ يُصَلُّونَ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى مَا رَأَى مِنْ حُسْنِ حَالِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يَخْلُفَهُ اللهُ فِيهِمْ بِالَّذِي رَآهُمْ، فَقَالَ:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، أَوْ مِنْ المُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ المُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَداً مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي) رواه ابن ماجة في كتاب الجنائز برقم /1588/. 

والتعزية مستحبّة قبل الدفن وبعده، قال أصحابنا: يدخل وقت التعزية من حين يموت ويبقى إلى ثلاثة أيّام بعد الدفن، والثلاثة على التقريب لا التحديد، كذا قاله الشيخ أبو محمّد الجوينيّ من أصحابنا، قال أصحابنا: تكره التعزية بعد ثلاثة أيّام، لأنّ التعزية لتسكِيْن قلب المصاب، والغالب سكون قلبه بعد الثلاثة، فلا يجدّد له الحزن.. ".  

 

" وأمّا لفظة التعزية فلا حجر فيه، فبأيّ لفظٍ عزّاه حصلت، واستحبّ أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: " أعظم الله أجرَك، وأحسن عزاءك، وغفر لميّتك "، وفي المسلم بالكافر: " أعظم الله أجرَك، وأحسن عزاءك "، وفي الكافر بالمسلم: " أعظم الله أجرَك، وأحسن عزاءك "، وفي الكافر بالكافر: " أخلف الله عليك ".

 

واعلم - رحمك الله - أنّه قد شاعت على ألسنة العامّة كلمات هي من الحكمة البليغة، ولو لم يرد لفظها في السنّة، ولكنّها تحقّق مقاصد الكتاب والسنّة، كما شاعت كلمات إذا تأمّل المؤمن معناها وجدها بعيدةً عن قصد المتكلّم ومراده ؛ فمن النوع الأوّل في التعزية قولهم: " يسلم الدين والإيمان " والمراد بذلك ألاّ يقع المصاب بشيء من الجزع أو التسخّط على قدر الله تعالى، ممّا يحرمه أجر الصبر والاحتساب.. ومن النوع الثاني في التعزية قولهم: " لا فجعك الله بعزيز "، ومعلوم أنّ حياة الإنسان لا تنفكّ عن المصائب والابتلاءات، وإذا لم يفجع الإنسان بعزيز فيها، فهذا يعني أنّه أوّل عزيز يفجع به أهله، وهذا عكس مرادهم من تلك الكلمة، فلينتبه المؤمن إلى كلامه، وليتفكّر بمعانيه ومراميه.

وممّا جاء من أخبار السلف في التعزية ما روى البيهقيّ في مناقب الشافعيّ رحمهما الله، أنّ الشافعيّ بلغه أنّ عبد الرحمن بن مهديّ رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعيّ رحمه الله: يا أخي ! عزّ نفسك بما تعزّي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك. واعلم أنّ أمضّ المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجمعتا مع اكتساب وزر.؟! فتناول حظّك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، وكتب إليه:

إنّي معزّيك لا أنّي على ثقةٍ من  الخلود  ولكن  سنّة  الدينِ

فما المعزّي  بباقٍ  بعد  ميّته         ولا المعزّي، ولو عاشا إلى حينِ

وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزّيه بابنه: أمّا بعدُ ؛ فإنّ الولد على والده ما عاش حزنٌ وفتنة، فإذا قدّمه فصلاة ورحمة، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيّع ما عوّضك الله من صلاته ورحمته.

وقال موسى بن المهدي لإبراهيم بن سالم، وعزّاه بابنه: أسرّك وهو بليّة وفتنة، وأحزنك وهو صلوات ورحمة.؟!

وعزّى رجل رجلاً فقال: عليك بتقوى الله والصبر، فبه يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع.

وعزّى رجل رجلاً فقال: إنّ من كان لك في الآخرة أجراً: خير ممّن كان لك في الدنيا سروراً.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه دفن ابناً له، وضحك عند قبره، فقيل له: أتضحك عند القبر.؟! قال: أردتّ أن أرغم أنف الشيطان.

وعن ابن جريجٍ رحمه الله قال: من لم يتعزّ عند مصيبته بالأجر والاحتساب سلا كما تسلو البهائم.

وعن حُميد الأعرج قال: " رأيت سعيد بن جبير رحمه الله يقول في ابنه ونظر إليه: إنيّ لأعلم خير خلّة فيه، قيل: ما هي ؟ قال: يموت فأحتسبه.

وعن الحسن البصريّ رحمه الله أنّ رجلاً جزع على ولده، وشكا ذلك إليه، فقال الحسن: كانَ ابنك يغيب عنك.؟ قال: نعم، كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً فإنّه لم يغب عنك غيبة الأجر لك فيها أعظم من هذه. فقال يا أبا سعيد ! هوّنت عليّ وجدي على ابني.

وعن ميمون بن مهران قال: عزّى رجل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك ، فقال عمر: الأمر الذي نزل بعبد الملك أمر كنّا نعرفه، فلمّا وقع لم ننكره.

وعن بشر بن عبد الله قال: قام عمر بن عبد العزيز على قبر ابنه عبد الملك فقال: رحمك الله يا بنيّ ! فقد كنت سارّاً مولوداً، وبارّاً ناشئاً، وما أحبّ أنّي دعوتك فأجبتني.

وعن مسلمة قال: لمّا مات عبد الملك بن عمر كشف أبوه عن وجهه وقال: رحمك الله يا بنيّ ! فقد سررت بك يوم بشّرت بك، ولقد عمرت مسروراً بك، وما أتت عليّ ساعة أنا فيها أسرّ من ساعتي هذه، أما والله إن كنت تدعو أباك إلى الجنّة.

وقال أبو الحسن المدائنيّ: دخل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على ابنه في وجعه فقال: يا بنيّ ! كيف تجدك.؟ قال: أجدني في الحقّ، قال: يا بنيّ ! لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبت لأن يكُونَ ما تحبّ أحبّ إليّ من أن يكونَ ما أحبّ.

 

وعن جويرية بن أسماء، عن عمّه، أنّ إخوة ثلاثة شهدوا يوم تُستَر فاستشهدوا، فخرجت أمّهم يوماً إلى السوق لبعض شأنها، فتلقّاها رجل حضر تُستَر، فعرفته، فسألته عن أمور بنيها، فقال: استشهدوا، فقالت: مقبلين أو مدبرين.؟ قال: مقبلين، قالت: الحمد لله، نالوا الفوز، وحاطوا الذمار، بنفسي هم وأبي وأمّي، قلت: ( والقول للإمام النوويّ ) الذمار: بكسر الذال المعجمة، وهم أهل الرجل وغيرهم ممّا يحقّ عليه أن يحميهم، وقولها: حاطوا: أي حفظوا ورعوا.

ومات ابن الشافعيّ فأنْشد:

وما الدهر إلاّ هكذا فصطبِر له        رزيّة مالٍ أو فراق حبيبِ

قال أبو الحسن المدائنيّ: مات الحسن والد عبيد الله بن الحسن، وعبيد الله يومئذٍ قاضي البصرة وأميرها، فكثر من يعزّيه، فذكروا ما يتبيّن به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا على أنّه إذا ترك شيئاً كانَ يصنعه فقد جزع [انتهى كلام الإمام النوويّ رحمه الله في كتابه : " الأذكار " ص /214/].


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين