ملامح سور القرآن: سورة آل عمران 

سوة البقرة وسورة آل عمران متجاورتان متآخيتان متكاملتان، وهما وحدهما من السور الطوال ما بدأ بـ (ألم)، وهما متقاربتان في الطول، وهما أطول سور القرآن، وجاء في الحديث وصفهما بالزهراوين (أي المضيئتين)، والأمر بقراءتهما معًا، وأنهما يوم القيامة تأتيان تحاجَّان عن صاحبهما، وأنهما تُظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان (ظُلّتان)، فجَمَعَهما معًا، وجعل لهما شأنًا خاصًّا.

وسورة البقرة بمثابة التأسيس والتقرير للأحكام، وسورة آل عمران بمثابة إعمال هذه الأحكام في الواقع.

وأحكام القرآن تواجه في الواقع فئتين من الناس: أهل الكتاب والأميين، وهؤلاء يقابلونها بطريقتين: بالجدال وبالقتال. ومن الواضح أن جدال أهل الكتاب أكثر، من أجل الكتاب والعلم الذي جاءهم.

وقد سلف في سورة البقرة شطر من محاجة بني إسرائيل، وههنا شطر من محاجة النصارى، ولذلك تذكر السورة القصص الحق في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتدعوهم إلى المباهلة في شأنه، ولكن الخطاب هنا بـ (يا أهل الكتاب)، ذلك أن عيسى عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل، فضلَّ في شأنه أكثر اليهود والنصارى.

وأيضًا جمعُهم في خطاب واحد يشير إلى سلوكهم مسالك متشابهة في مواجهة الدعوة، وإلى تظاهرهم معًا على المسلمين، مع ما بينهم من عداوات، واعتقاد الفريقين أن الآخر ليس على شيء، كما قال الله تعالى: (وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء).

وتواجه آيات القرآن ثالثًا زينة الدنيا والشهوات، وما يعتمل في النفس الإنسانية من الضعف أمامها، والسورة تعالج ذلك بالموعظة والبيان.

وهذه الخطوط الثلاثة من المحاجة والمقاتلة والموعظة في شأن شهوات الدنيا واضحة في السورة، لكن معنيي الجدال والقتال يكادان يقسمانها قسمين.

ومفتتحها ذكر التوحيد بالصيغة التي جاءت في سورة البقرة مقررة الحقائق التي يقاتل في سبيلها المؤمنون بأموالهم وأنفسهم ويجادلون أيضًا، والجهاد يكون بالقرآن أيضًا، كما قال: (وجاهدهم به جهادًا كبيرًا)، ولذلك جاء في أول السورة ذكر القرآن وتفصيل آياته إلى محكم ومتشابه.

ويتلو ذلك تمهيد آخر يتعلق بالخطين الآخرين في السورة، وهما القتال وشهوات الدنيا، ولاتصالهما معًا جمعهما في شوط واحد، ذلك أن شهوات الدنيا مما يَثقل بالمؤمنين عن القتال، ومما يُزيِّن حال الكافرين في أعينهم، كأنهم على شيء، وهي أيضًا تغرُّ الكافرين، وتدعوهم إلى الاستكبار واتباع ما أترفوا فيه، وإلى التعزز بالملك، والملك لله يؤتيه من يشاء.

ومشهد مناجاة المؤمنين لله تعبيرًا عن مواقفهم وأعمالهم وما في نفوسهم يتكرر في السورة وفي القرآن، كما في دعوة الراسخين في العلم في صدر السورة، ودعوة المتقين، ودعوة الحواريين، ودعوة الرِّبِّيين، ودعوة أولي الألباب في آخر السورة. وهو يشير إلى أن مدار الأمر على الموقف النفسي أو القلبي، ثم بعد ذلك تتبعه الأقوال والأعمال وما يترتب على كل ذلك من مآل.

وإيراد قضية التوحيد في صيغة الشهادة هذه منسوبة إلى الله، مقرونة بقيامه بالقسط، للتنبيه على أصل هذا الخبر السماعي بهذا الإسناد العالي الموافق للفطرة، متنزلاً من الله إلى ملائكته إلى أولي العلم، وذلك في وحيه في كتبه وعلى ألسنة رسله، مع ما نصبه من آياته في الآفاق وفي خلق السموات والأرض.

وإذا تقررت هذه الحقيقة فالدين الحق الذي أنزله الله وارتضاه لعباده ولا يقبل غيره منهم هو الإسلام الذي هو دين كل الأنبياء، جاءوا به ودعوا إليه، وما وقع اختلاف أصحاب الكتب إلا بسبب البغي، ومن بعد ما جاءهم العلم، وهذا كما جاء في سورة البقرة: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين..) الآية.

الجزء الأول من السورة هو في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، نفيًا لاعتقاد أكثر النصارى الباطل فيه، كما قال في سورة المائدة: (لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم)، (لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة). وقد كانت قصة ولادته بلا أب سبب ضلال أقوام فيه، فقصَّ القرآن هنا القصص الحق في ولادته بما هو أطول ممَّا جاء في سورة مريم، حتى إنه بدأ من قصة جدته امرأة عمران، وزاد على حادثة ولادته أن ذكر ما كاده له بنو إسرائيل، وما قاله له الحواريُّون، ورفْعَ الله له إليه. وهذا المقدار الطويل من القصة الذي ذكر جذورها ومآلها خاص بسورة آل عمران، جاء أغلبه مفرقًا في سور أخرى، وزادت هذه السورة بقصة امرأة عمران وما نذرته وما قالته، فكان هذا كله تمهيدًا للجزء الثاني في مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى كلمة سواء.

الجزء الثالث قضيته تماسك الأمة المسلمة، متميزة بإسلامها وخصائصها وقوتها في مواجهة أسباب التذويب والارتداد. وهو يشير في هذا الباب إلى العلاقة بأهل الكتاب، وسعيهم إلى أن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كافرين، ويذكر الوصايا التي في امتثالها العصمة من انحلال الأمة واضمحلالها بفقدانها لخصوصيتها كما أخرجها الله للناس وأرادها بسماتها وملامحها الأصيلة.

ومن قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) يبدأ التعليق على غزوة أحد وما جرى فيها من أحداث كانت مناسبة لتقرير كثير من الحقائق الدينية والنفسية والكونية.

ويستمر هذا التعليق الطويل إلى قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)، فهو تتمة لجدال أهل الكتاب، ويتلوه مقطع الختام.

وغزوة أحد التي أصاب فيها المسلمين القرح -كما سماه الله- لا تُذكر باسمها في القرآن، وذُكرت بدر باسم الموضع الذي جرت فيه، لا في السورة التي نزلت بالتعقيب على أحداث بدر، وهي سورة الأنفال، ولكن في هذه السورة، سورة آل عمران، تذكيرًا بمنة الله تعالى عليهم وأنه نصرهم وأنزل ملائكته تقاتل معهم، ولكنهم في هذه المرة قصّروا، وإنما أُتوا من عند أنفسهم، كما أخبر الله، ووعظهم طويلا في شأن هذا التقصير، وقد شمل خلجات النفوس، ومخالفات الأعمال.

ومن العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الجبل الذي وقع عنده القرح للمسلمين، واستُشهد منهم سبعون، منهم سيد الشهداء حمزة عمه، رضي الله عنهم، يقول: "جبل يحبنا ونحبه"، ليعلمنا ألا نتطير بالأشياء والأمكنة إن اقترنت ببعض ما نكره، لأن ما أصابنا إنما هو من عند أنفسنا، وهذه الأشياء لا علاقة لها بذلك، بل ربما يكون لها من الودادة والمنفعة لنا ما لا تستحق به التطير أو الكراهة، بل التفاؤل والمحبة.

هذا المقطع الذي يبدأ بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة) معترض في سياقة التعليق على أحداث غزوة أحد بما يوهم أنه منفصل عنها، وهو في قلبها، ووثيق الصلة بها.

ذلك أنه بعد أن أشار منذ البدء إلى نصر بدر، عطف الكلام إلى أسباب النصر النفسية والخلقية الخليقة بتهيئة أصحابها إلى أن يكونوا أهلا لتنزل العون الإلهي، فليست الأمور متروكة للمصادفة أو للتمني، ولكنها قوانين تؤدي مبادئها إلى نتائجها.

وأول ذلك الأساس التشريعي الذي تقوم عليه حياة المؤمنين، باجتناب ما حرم الله، والحذر منه، وذكر الربا بوصفه ذروة المحرمات المتعلقة بالمال الذي هو عصب الحياة كما يقال، ونهى عن أكله أضعافًا مضاعفًا، لا على سبيل القيد، ولكن على سبيل حكاية الحال، والنهي عن أخطر الصور شديدة الضرر. وإذا كانوا في حالة حرب واشتباك مع العدو فمن الغفلة أن يجمعوا على أنفسهم حربين، فإن الله توعد على الاستمرار في أكل الربا بحرب من الله ورسوله.

ثم مقطع ينتقل بنا إلى قلب المعركة، يبدأ من قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)، وهو يصف الأحداث على التفصيل: الأعمال، والأقوال، وخطرات النفوس، والرعاية الإلهية الدائمة، والمحاسبة الدائبة أيضًا على كل شيء، ويحيط بكل ذلك العفو عن الزلات والرحمة الغامرة. إن كادر الصورة في قلب المعركة، يصور الحركة، وينقل القول الملفوظ، ويستخرج حديث النفس المكتوم.

وختام السورة آيات في المناجاة والتعليق عليها تبدأ من قوله: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات لأولي الألباب)، وهي تشبه الآيتين في ختام سورة البقرة، وهي تصور الحالة النفسيَّة للمجاهدين، فهم قوم من أهل الذكر والتفكر، وسعيهم في الدنيا مرتبط بنظام الكون، ومتَّصل بالمآل في الآخرة، وموقفهم النفسي والفكري هذا له تكاليفه الدنيويَّة، من الهجرة والإخراج من الديار والإيذاء في سبيل الله والقتل والقتال، ولا يكون أمرًا نظريًّا مجردًا، ولا ادعاء بلا عمل، ولا تفكرا بلا تبعات. 

ثم يشير إلى أن هؤلاء يكونون أيضًا من أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم. والجملة الأخيرة كلمة جامعة في الجهاد بأنواعه: الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين