ملاحظاتنا على هيئة المفاوضات

 

عدت أخيراً من سفر قابلت فيه كثيرين، واتصلت في العالم الافتراضي بكثيرين سواهم، فمِن هؤلاء وهؤلاء استقرأت مزاجاً ثورياً عاماً يغلب عليه القلق، وكأنّ الناس الذين اطمأنوا إلى أداء الهيئة التفاوضية في أول الأمر باتوا يحسّون بفجوة تزداد اتساعاً بينها وبينهم، وبقلق متزايد ممّا يجري في أروقة المفاوضات.

 

إن الهيئة العليا تستمد قوّتها من جمهور الثورة، وهو سيتخلى عنها لا محالةَ إذا ابتعدت عنه وأعرضت عن سماع رأيه وتفرّدت بالقرار. هذا الجمهور يُقلقه أن ما قُدِّم من تنازلات لم تعوّضه أي مكتسبات، لا سياسياً ولا عسكرياً، ولا في الوضع الإنساني الكئيب على الأرض، ويزداد قلقه مع غياب الشفافية ومع جهله بما يدور وراء الكواليس في قاعات المفاوضات.

 

إن من شأن ذلك كله أن يرفع بين الهيئة وجمهورها جُدُراً عالياً من الريبة، وقد ينسف الثقة التي تكونت خلال الأسابيع الأولى من عمرها، حينما شعر الناس أنها تمثلهم وتشاركهم في المواقف والقرارات.

 

*   *   *

 

ما الذي أقلق جمهور الثورة في عمل الهيئة؟ من متابعة الرأي الثوري العام يمكننا تلخيصه فيما يأتي:

 

1- التنازل غير المفهوم عن شروط بدء التفاوض، فقد ذهب الوفد إلى جنيف وانخرط في المفاوضات دون أي اكتراث بتحقيق الشروط الإنسانية التي تشبثت بها الهيئةُ ابتداءً وأصرّت على تحقيقها قبل أن تضع رجلها في المسار السياسي، فلا المعتقَلون أُطلقوا ولا القصف توقف ولا فُكّ الحصار، ولا يبدو أن الهيئة مكترثة بتحقيق أي من تلك الشروط بعدما وافقت -راضيةً أو مُكرَهة- على فكّ الارتباط بين المسارين الإنساني والسياسي.

 

2- تحوّلُ الهيئة إلى كيان منفعل لا فاعل، فهي تُدعَى إلى المؤتمر فتذهب إلى المؤتمر، وتنتظر خطة النظام حتى تبدي رأيها بشأنها، ويقدم لها ديمستورا أسئلته التفصيلية فتنشغل بالإجابة عنها، وهو يكتب الوثائق وهي تكتفي بالتعليق. فأين المبادأة والمبادرة، وأين الرؤية السياسية الشاملة التي تتكامل مع الحالة الإنسانية على الأرض والواقع العسكري في الميدان؟

 

3- تمديد الهدنة دون الرجوع إلى القوى العسكرية، ودون تقييدها بقيد زمني واضح كما كان الأمر في هدنة الأسبوعين الأوّلين. ويزداد القلق من احتمال تحول الهدنة إلى وقف دائم للأعمال القتالية، سينشأ عنه حتماً تثبيتٌ لخطوط التماس وتكريسٌ للأمر الواقع. ثم أيُّ هدنة هذه التي يخرقها النظام كل يوم ثم تهدد روسيا بالرد المنفرد على منتهكيها؟ أما آن الأوان لتعلن الهيئة أن الهدنة صارت في خبر كان؟

 

*   *   *

 

ذلك ما يقلق السوريين في سلوك الهيئة حتى اليوم، أما أكثر ما يخشونه في المستقبل فهو الأمور الآتية:

 

1- تضييع هدف الثورة في غمرة الانشغال بمصير الأسد، فإن أكثر عبارة تخيفنا هي قولهم "ليس للأسد دور في مستقبل سوريا". إن مشكلتنا مع النظام وليست مع الأشخاص، فلا تسمحوا لهم بأن يشغلوكم بهذه الجزئية، ولا تنسوا أن هدف الثورة الأكبر ليس إسقاط رأس النظام وحده، وإنما هو إسقاط النظام كله من الرأس إلى الأقدام.

 

2- بقاء المؤسسة الأمنية الأسدية. وهو خوف نشأ عن موافقة الهيئة العليا على "إعادة هيكلة" مؤسسات الدولة السورية، بما فيها المؤسسة الأمنية التي يعلم السوريون أنها هي أصل بلائهم في نصف القرن الماضي، ويعلمون أنهم لن يعيشوا أحراراً كِراماً إلا بنقضها حجراً حجراً وتفكيكها مسماراً بعد مسمار، أما الإصلاح وإعادة الهيكلة فلا وألفُ ألفِ لا.

 

3- الموافقة على تشكيل هيئة حكم انتقالية بالاشتراك مع جزء من النظام لم تتلطخ أيدي أصحابه بالدماء. لن ننفي أن في مؤسسات النظام الحالية مَن لم تتلوث أيديهم بالدماء، ولكن هؤلاء أتفهُ من أن يهتم أحدٌ بمشاركتهم في هيئة الحكم الانتقالية، فالمقصود حتماً غيرُهم من المتنفذين وأصحاب القرار. فهل في هؤلاء مَن سَلِمَ من دمائنا حتى نشترك معه في حكم سوريا بعد اليوم؟

 

4- تفويض هيئة الحكم الانتقالية بالإشراف على صياغة دستور جديد لسوريا. نحن نعلم أن أي دستور يُصاغ في هذه المرحلة سيكون دستوراً مدجَّناً يُكتَب تحت الوصاية الدولية، فلماذا لا تصرّ الهيئة العليا على اعتماد دستور 1950 حتى يسقط النظام ويتحقق الاستقلال، ويصبح السوريون قادرين على انتخاب جمعية تأسيسية تأخذ على عاتقها كتابة دستور سوريا الجديد؟

 

5- أخيراً يقلقنا أن الهيئة العليا لم تعتمد أهم الوثائق الثورية وأكثرَها قبولاً وأصدقَها تعبيراً عن أهداف الثورة، وهي وثيقة "المبادئ الخمسة" التي أصدرها المجلس الإسلامي السوري وحدّد فيها الخطوط الحمراء التي لا يجوز للثورة تجاوزها بأي حال.

 

نتمنى أن تكون هذه الوثيقة جزءاً من الأدبيات التأسيسية لهيئة التفاوض وأن تصرّح باحترامها والالتزام بمضمونها، فإن جمهور الثورة سيشعر بالأمان ما كانت هذه الوثيقة هي الحارس وهي الضمان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين