مفاهيم ينبغي أن نتفق عليها قبل أي نقاش (٣)

٣- (سد الذرائع) وهي قاعدة أصولية معناها باختصار: منع المباح أو المشروع إذا أدّى في ظرف ما أو حالة ما إلى الحرام أو الضرر.

ومثال ذلك: نقول بيع السلاح مباح بأصله، لكن بيعه للمجرم ممنوع لما يؤدي إليه من المساعدة على الجريمة، وكذا بيع العنب لمن يصنع منه الخمر.

 

من الواضح أن هذه القاعدة جاءت على سبيل الاستثناء لسد الثغرة المحتملة لتطبيق الشريعة في بعض الحالات التي يؤدي تطبيقها فيها إلى عكس مقاصد الشريعة.

 

لكنها الآن قد تستخدم في المجادلات والصراعات المذهبية للتنصل من الالتزام بالدليل بعد ظهوره وربما تستعمل أيضًا لتعطيل مصالح المسلمين الراجحة وخنقهم في عالم مليء بالتكتلات والحركة المستمرة.

 

فأنت تناقشه مثلا عن حكم الاحتفال بمناسبة المولد النبوي أو الهجرة النبوية أو تحرير بيت المقدس فيقول لك: أما تنظر ماذا يحصل فيها من مخالفات؟

 

ولو أردنا أن نطبق هذا المفهوم الخاطئ لهذه القاعدة الشرعية لتوقفت الحياة ولامتنعنا عن أداء كثير من الشعائر والعبادات، خذ مثلا:

أليس دخول الطالب إلى الجامعات محفوفا بجملة من المفاسد كالسفور والاختلاط ووجود الأساتذة الذين يبثون الفكر العلماني أو الإباحي؟

أليس في ركوب الطائرات مفاسد شرب الخمر والمضيفات المتبرجات؟ (وأنا شخصيا أعاني من هذا كثيرا وحسبنا الله ونعم الوكيل)

بل أليس في صلاة الجمعة في ظل الحكومات الفاسدة مفسدة صعود المنابر من قبل المنافقين والدجالين (وبالمناسبة لقد كتبت سابقا عن صديقي التركي أبي يوسف الذي كان يصلي الظهر في بيته يوم الجمعة ويمنع أولاده من الصلاة في الجامع حماية لهم من مساجد الحكومات وخطباء الحكومات، وقد عانيت معه كثيرا حتى أقنعته والحمد لله بوجوب صلاة الجمعة، حتى مع هذه المفاسد المتوقعة).

 

ثم ماذا لو قارنا بين مظاهر الاختلاط واللهو العابث في المولد أو الهجرة وتلك التي تكون في عيد الفطر وعيد الأضحى؟

 

وينبغي التنبه أيضًا إلى أن هذه القاعدة لا تجتمع مع قاعدة (البدعة)، فالبدعة ممنوعة لذاتها، بينما هذه القاعدة تقرّ بمشروعية العمل في أصله فهو ليس ببدعة ولا حراما بنفسه، لكنها قد تمنعه مؤقتا لما يترتب عليه في بعض الحالات أو التطبيقات.

 

إن من الأصول التي ينبغي استحضارها عند تطبيق هذه القاعدة ما يأتي:

أولًا : أن يكون الضرر الذي نخشى منه غير ملتبس بمصلحة راجحة، ولذلك لا يصح منع الطلاب من دخول الجامعات مع ما فيها من مفاسد لأن منع الطلاب من التعليم سيؤدي إلى مفسدة أكبر، فمصلحة التعليم هنا أرجح، وكذلك قل في وسائل السفر الجماعي ( الباصات والقطارات والطائرات ونحوها)

ثانيا: أن يكون الاستثناء بقدر الضرر المتوقع، ولا يجوز أن ينقلب الاستثناء إلى أصل، لأنه سيعود إلى أصل التشريع بالإبطال، ولذلك فلا زلت أتعجب من تخريج بعضهم لموقف الإمام مالك من صيام ستة شوال على أنه من باب سد الذرائع، يعني حتى لا يظن الناس أنها من رمضان، وهذه المسألة تحديدا عندي فيها كلام كثير لا تتسع له هذه العجالة، ولكني أدعو إلى فهم موقف الإمام مالك وعباراته بطريقة تتفق مع أصول الاجتهاد عنده، رضي الله عنه وأرضاه.

 

والخلاصة التي أفتي بها هنا وألقى الله بها

أن المشروع إذا أدى تطبيقه في ظرف ما إلى مفسدة محضة غير ملتبسة بمصلحة فوجب تطبيق هذه القاعدة، أما إذا التبس بمصلحة فيبقى المشروع على أصله ويتوجب هنا (النهي عن المنكر) وتوعية الناس في ذلك، بمعنى أننا ننكر كل المنكرات التي تجري في المناسبات الدينية أو التاريخية أو الاجتماعية وما يكون منها في الجامعات ووسائط النقل، فنشخص المنكر ونحاربه لوحده بحسب الطاقة وبعيدا عمّا التبس به من مصالح، والله تعالى أعلم وأحكم وأرحم.

 

وهذا في تقديري هو نهج النبيين عليهم الصلاة والسلام

فهذا سيدنا موسى يرضى بأن يكون اجتماعه مع فرعون وملئه  والسحرة وعموم الناس يوم الزينة وهو يوم عيد الفراعنة (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى)، وبكل تأكيد ما كان هذا اليوم خاليا من المنكرات، وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى جميع النبيين وسلّم كان يعرض نفسه على تجمعات المشركين في مناسباتهم وأسواقهم، وبكل تأكيد كانت تلك التجمعات تعج بالمنكرات، فأين هذا الفهم لقاعدة سد الذرائع الذي يلفّ اليوم الحبال حول أعناقنا فلا يجعلنا نستثمر مناسباتنا التاريخية فضلا عن استثمار مناسبات غيرنا، حتى صار الناس ينظرون إلينا على أننا نحن الأقلية الضائعة في بلادنا، وطغت مظاهر البدع الحقيقية التي تحارب الله ورسوله وكتابه وتهزأ بأصول عقيدتنا وهويتنا دون حياء ولا نكير .

والله المستعان.

 

رابط الجزء الثاني

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين