مطوية الرحمة والإحسان

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: 

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه -إعلام الموقعين عن رب العالمين- "فإن الشريعة مبناها ومقاصدها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي: عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها" .

لقد اتسمت الشريعة الإسلامية بصفات جليلة لا يمكن حصرها وعدُّها، وإن الناظر في أحكامها وتفاصيلها يتبين بأن هناك صفة عظيمة بني عليها تفاصيل شرعنا الحنيف، ألا وهي صفة الرحمة.

فالرحمة صفة الله عز وجل فهو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وفاضت على سائر مخلوقاته ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]

ومن المعلوم بأنه لا يوجد سلاح قيّضه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمضى في التوفيق كسلاح الرحمة ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

والرحمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ليست خاصة بالمسلمين فقط، ولكنها شاملة لجميع البشر، فهي رحمة طبيعية تلقائية لا تختص بصنف بشري، بل هي مشاهدة في كل الأحوال، رغم اختلاف الظروف، وتعدد المناسبات، وهو ما نلحظه في الآية الجامعة التي شرحت المنهج الرباني في التعامل مع الخلق حيث قال ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]

ومن هنا جاءت قضية الرحمة التي أرسى دعائمها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من خلال أقواله عامة وشاملة، فهو القائل (من لا يرحم لا يُرحم) متفق عليه، ويقول أيضاً (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وهو الحديث المسلسل بالأولية الذي كان المحدثون يستحبون الابتداء به في تلقين المتعلم إشارةً إلى أن العلم ينبغي أن يكون مبنياً على الرحمة، ويقول كذلك (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه. فالعبارات هنا جاءت على إطلاقها دون تقييد ولا تحديد.

وأما رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعماله وأفعاله فلا يغيب عن أحد رحمته مع الكبار والصغار، ورحمته مع الرجال والنساء، ورحمته مع الصديق والعدو، بل إن رحمته تجاوزت البشر لتصل إلى الدواب والأنعام، والطير والحشرات. 

لذلك كان لزاماً على كل امرئ رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً أن يتزين بهذه الصفة، ويتجمل بهذه السجية. 

ومن صور الرحمة التي أمرنا الإسلام بها، الإحسان للآخرين، والذي يتمثل بإيصال النفع الديني والدنيوي إليهم. 

ومن أعظم الصفات التي أثنى الله بها في كتابه على عباده صفة الرحمة التي يمتد نسيجها فيما بين أفراد عباده قال تعالى ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الحجرات: 29]

ولو تأمل القارئ في حديث الله عزَّوجل عن العقبة الكؤود التي ينبغي لعباد الله أن يتجاوزوها، وأن يبذلوا كل جهدهم في اقتحامها، جعل الأداة الوحيدة في اقتحامها وتجاوزها هي التراحم والإحسان للآخرين، قال تعالى ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾[البلد:11-17]

ومن منطلق التراحم والإحسان حرص الإسلام على تقوية الأواصر، وتعميق الروابط بين بني الإنسان، لبناء مجتمع قوي وقادر على مواجهة التحديات والأزمات، مجتمع حضاري راق، يرحم القوي الضعيف، ويعطف الغني على الفقير، ويعطي الغني ذا الحاجة، فيحرص على بناء مجتمع متقارب متحاب، ومتعاون على الخير والبر، وفعل المعروف، فلا ينبغي لمجتمع أن يعيش متفككاً، ولا ينبغي للفرد أن يعيش منفصلاً عن أفراد مجتمعه. 

فالرحمة المتمثلة بالإحسان للآخرين لها صور كثيرة، وطرق عديدة، منها :

1- الإحسان للوالدين: وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تحث على حقوق الوالدين، وبرهما والإحسان إليهما، قال تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[سورة الإسراء:23–24]

2- الإحسان للزوجة: ويتجسد هذا المعنى بكمال الخيرية التي تحدث عنها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) أخرجه ابن ماجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

3- الإحسان للجيران: عظم الإسلام حق الجوار، وأمر المسلم بإكرام جاره، والإحسان إليه، وكف الأذى عنه، وتحمل كل ما يصدر منه، وبهذا الخلق العظيم، والخصال الحميدة يكمل إيمان المرء. قال صلى الله عليه وآله وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) متفق عليه.

4- الإحسان للخلق جميعاً: من المعلوم بأن نفع الناس، والإحسان إليهم، وقضاء حوائجهم، وتفريج هموهم من أعظم أسباب إشاعة المحبة والألفة بين الناس، وزيادة أواصر الأخوة ودوام المودة بينهم، وهي من أهم الأسباب لانفتاح القلوب لدين الله, والإقبال على شرعه الحنيف، فأحب الناس إلى الله أنفعهم لخلقه، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على قلب مسلم. 

قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: "وقد دلَّ العقل والنَّقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أنَّ التقرب إلى رب العالمِين، وطلَب مرضاته، والبر والإِحسان إِلى خلقه من أعظم الأسباب الْجَالبة لكلِ خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الْجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم اللَّه، واسْتُدْفعت نقمته، بمثل طاعته، والتقرب إِليه، والإحسان إِلى خلقه".

ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عَن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (منْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).

قال الإمام الشافعي -رحمه الله- :

الناسُ بالناسِ ما دام الوفاءُ بهمْ=والعسرُ واليسرُ ساعاتٌ وأوقاتُ

وأكرمُ الناسِ ما بين الورى رجلٌ=تُقضى على يده للناس حاجاتُ

لا تقطعنَّ يدَ المعروف عن أحدٍ=إن كنتَ تقدِرُ فالأيامُ تاراتُ

واشكر صنيعةَ فضلِ الله إذ جَعلت=إليك لا لك عند الناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت فضائلُهم=وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

وفي ظل المحن والشدائد التي يخيم شبحها على المسلمين عموماً، و على أهل الشام خصوصاً لا أجد دواءً ناجعاً، وشفاءً نافعاً كخلق التراحم والإحسان، فهو صلة الوصل بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والكبير والصغير، والشيخ الذي احدودب ظهره والشاب الفتي، فالناس أحرار متى حكمهم هذا الخلق العظيم تحت ظل الإسلام الوارف، وبه نبني المجتمع المنشود الذي عناه بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه.

 

تحميل الملف