مضاعفة الحسنات في صلة القرابات

الحسنة بعشر أمثالها:

إنَّ من جاء بالحسنة في ديننا؛ فَلَهُ عشرُ أمثالها، والله يضاعف لِمَنْ يشاء، ولمَّا كانت صلةُ الأرحام صُورَةً من صُوَرِ الإنفاق؛ ذلك أَنَّها إنفاقُ وَقْتٍ، وإنفاقُ مال، نَاسَبَ أن يكون جَزاؤُهَا على قواعد الأجور المعلومة في الدين !

فكل من أنفق من وقته الثمين في وِصَالِ رَحِمِه، بارك الله يومَه، وأطالَ عُمُرَه، وإنَّ من أنفق من ماله الذي يُحِب في زيارة رَحِمِه، ضَاعَفَ الله ماله وَزَكَّاه، وَنَمَّاه؛ ليكون الجزاءُ من جنسِ العَمَل، والله ذو الفضل العظيم !

 

إن الله تعالى بحكمته وكرمه يُقَيِّضُ في كل عائلة ملاذًا آمنًا لها، يَقصِدُهُ المَريضُ والمُحتَاج، والراغب في الزواج، ومن وقَعَ به هَمٌ، أو داهمه غَمٌ، فهذا يَمَدُّهُ اللهُ تعالى بِرِزقٍ إضافي؛ لِيُلَبِّىَ حاجةَ كل أحدٍ، فأنت تلحظُ فقرَهُ، وتَعجبُ من سعةِ فَضلِه، وَجَميل عطائه، دُونَ أن تُدرِكَ سِرَّ المسألَةِ، ولعلَّك تَعْرِفُ بَعْضًا مِن هَؤلاء، وقد قيل قديمًا: إنَّ المَعُونَةَ عَلَى قَدَرِ المَئُونَة !

 

الجزاء من جنس العمل:

إنَّ صِلَة الرحم حَجَرُ أساسٍ في إرساء صَرح العائلة وقوتها، واتحادها ورفعتها، ولما كان الوَاصِلُ هو المُتَصَدِّي لهذه الفضل؛ ناسب أن يكون الجزاء من جنس العمل !

ووجه ذلك:

إن قوةَ العباد المادية بارزة في أمرين: صَلابَةُ أجسادهم، وَوِفْرَةُ أموالهم، فشاء الله تعالى بِفَضْلِهِ وَكَرمه ورحمته وحكمته أن يَمَدَّ وَاصِلِي أرحَامهم بالأمرين، فَمَنَحَهم أجسادًا قوية أطالَ بِهَا أعمارهم، وآتاهم زيادةً في أموالهم، فلمَّا قووا عوائلهم، قَوَّاهُمُ الله وَتَفَضَّلَ عليهم، وَمِن خَزائِنِهِ أَمَدَّهُم وَأَغْدَقَ عليهم !

ولذا؛ هتف الإمام علي رضي الله عنه في سمعك ناصحًا لك، حريصًا عليك، قائلًا لك عن رَحِمِك:

أُولئِكَ هُم عَشِيرَتُكَ، بِهِم تَصُولُ وَتطُول، وَهُمُ العُدَّة عِندَ الشِدَّة، أَكرِم كَريمَهُم، وعُدْ سقيمَهُم،

 ويَسِّرْ عَلَى مُعْسِرِهِم، ولا يكن أَهْلُكَ أَشقَى الخلقِ بِك !

 

سؤال ذكي

قلتم: إنَّ من وَصَلَ رَحِمَهُ، أطال الله عمره ! فكيف يُزَاد له، ومعلومٌ أن عُمُرَ العبدِ ثابتٌ لا يَتَغَيَّر، وإذا جَاء أَجَلُهُ لا يَتَقَدَّم ساعةً ولا يَتَأَخَّر؟!

 

إليك الإجابةَ  مفصلةً:

          اعلم أولًا أن أَقْلامَ القَدَرِ خمسةٌ، إليك بيانَها:

الأول: اللوح المحفوظ: وجاء فيه ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟! قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " سنن أبي داود، رقم الحديث: (4700)، ص (705).

الثاني: لوح الملائكة: وقد نسخته من اللوح المحفوظ، وهو الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم صَريرَ أقلامه لما عُرِجَ به إلى السماء.

الثالث: القلم العُمُرِي: فيكتب المَلَكُ الموكل بالعبد عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد.

الرابع: القلم السنوي: فيكتب عمل العبد السنوي كله في كل ليلة قدر من كل عام.

وآخرها: القلم اليومي: وهو ما يرصده رقيب وعتيد من كل حركة وسكنة يجريها العبد.

أفاد العلماء أن القلم الأول وهو اللوح المحفوظ لا تبديل فيه ولا تغيير، وأن المحو والإثبات إنما يكون بالصحف التي في أيدي الملائكة، وهذا قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]

          إذا تقرر هذا؛ فإن الجمع بين زيادة العمر بصلة الرحم، وأنه ثابت لا يتغير؛ قد اختلفت فيه أنظار العلماء على أقوال، إليك الراجحَ منها:

          إن الأجل أجلان؛ أجلٌ مطلقٌ، يعلمه الله، وأجلٌ مُقَيَّد، وإن الله يأمر المَلَكَ أن يكتب للعبدِ أجلًا، ويَزْدادِ بِصَلِةِ الرحم؛ كأن يقول له: إن عُمُرَ العبد [60 عامًا]، فإن وصل رحمه فزده [40 عام]، فتصبح [100 عام]، وإن الله تعالى يعلمُ ما يستقر عليه العبد؛ بِخِلافِ المَلَكِ المُوَكَّل،، ولذا؛ يقع المحو والإثبات في صُحُفِ الملائكةِ، دون اللوح المحفوظ، وهذا قولُ جمهور العلماء !

          وبهذا يُحمل الحديث على ظاهِره؛ ذلك أن الله عزَّ وجلّ جعل صِلَة الرحم سببًا شرعيًا لزيادة العمر، فَتَكُون الزيادة حقيقية في صُحُفِ الملائكة، وإن كانت مُقدرة في اللوح المحفوظ أزلًا، وهذا لا يتناقضُ مع حُصُولِ البَركةِ في العُمُر، والثناء بعده، وزيادة توجه القلب لربه عزَّ وجلّ ! [ابن تيمية / مجموع الفتاوى (8/517)، القرطبي / الجامع لأحكام القرآن (14/334)، د. عمر الأشقر / الإيمان بالقضاء والقدر ص (122).]

وقد أعجبت بكلام الإمام الدهلوي بقوله:

إننا إن لم نقل بذلك، وأن العمر لا يزيد يومًا واحدًا؛ لَحَصَلَ الفتورُ في صِلَةِ الرحِم، فَيَخْتَلُّ المعنى الذي قَصَدَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المبالغةِ في تَرغيبِ الأمةِ فيها، والله أعلم. الدهلوي / حجة الله البالغة (1/605).

 

وعلى كل حال يمكن أن نذكر الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: وألمع ما قالوه خمسة أقوال إليكها:

القول الأول: إن الملائكة تنسخ من اللوح المحفوظ أن عمر العبد [60 عامًا]، فإن وصل رحمه زيدت [40 عامًا]، فتصبح [100 عام]، وإن الله يعلم ما يستقر عليه العبد، أما الملك الموكل فلا يعلم أيعيش إلى الأول أم إلى الثاني، ولذا؛ يقع المحو والإثبات في صحف الملائكة، دون اللوح المحفوظ، وهذا قول جمهور العلماء

القول الثاني: أفاد الصنعاني أن الزيادة في العمر كناية عن بركته، فيوفق الله عبده لطاعته، وعمارة وقته، ويحفظه من ضياعه، كما أعطانا الله ليلة القدر، وأنها خير من عبادة ألف شهر، مقابل ما تقاصر من أعمارنا، قياسًا على ما مضى من أعمار الأمم.

ألا ترى أن متجرين متجاورين، يربح الأول [200 دولار] في يومه، والآخر لا يتجاوز [20 دولار]، ولو تساوى وقت بيعهما؛ ذلك أن العبرة ببركة الوقت، وليست في قدره !

القول الثالث: إن الزيادة تكون بالثناء على الواصل بعد موته، فهي حي في قلب أمته، كأنه لم يمت !

فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم         بأفعالنا إنّ الثناء هو الخلد

القول الرابع: أفاد ابن القيم أن عمر العبد الحقيقي ما كان فيه مقبلًا على ربه، لا يلتف عنه بقلبه، فإن أعرض كان من جملة الأموات، فتكون زيادة العمر؛ متمثلة في عمارة القلب بالإيمان، والجوارح بالعمل !

القول الخامس: إن الزيادة أمر حقيقي، وهذا قول ابن عباس م؛ مستدلًا بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] !

رسالة الآية بلسان ابن عباس :

إن ثمة أجلين لِكُلِّ عبد، أولهما: من يوم مولده وحتى وفاته، والثاني: من وفاته إلى منتهى برزخه، فإذا وصل رحمه زاد الله في الأجل الدنيوي منقصًا من الأجل البرزخي، وإن قطع رحمه أنقص من الدنيوي، وزيد في البرزخي !

انظر: سبل السلام (4/160)، تفسير القرطبي (9/330).

 

محبة قائمة:

قالوا قديمًا: ألسنةُ الخَلْقِ؛ أقلامُ الحَقِّ !

فإن خَطَّت أقلامُ أرحامِكَ فيكَ الثناء، وجميل الدعاء، في الصباح والمساء، شاهدين لك بِالقَولِ الليِّن، والخُلُقِ الهيِّن؛ فهذه أولى بشائر العافية، والحياة الكافية الصافية !

خلق كأن الشمس تحسده على       كرم الطباع، وزينة الأوصاف

ضمنت له الدنيا الثناء فَكُلَّمَـا       ذكروه جاد الناس بالإتحاف

فإن كان المرءُ قليلَ الوصال لِرَحِمِهِ، وتمتع بِمَحَبَّةٍ قائمةٍ بينهم وبينه، ولم يَتَقَاصر عن الحد الأدنى لِوِصَالِهم؛ كَأَنْ يلقي السلام عليهم، ويَتَلَطَّف مَعهُم، ويدعو لهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ثم إنهم يلتمسون الأعذار له، فهذه السلوكات بشرى عافية، إلا أن المرء لا يُعَوِّلُ عليها دومًا؛ ذلك أن أرحامَك قد يُظْهِرُون لك الوُد، وإن خَلَوْا بأنفسهم نَطَقُوا بالعَتَبِ وأنتَ لا تَدْري !

 

جولة تعارفية:

أفاد غيرُ واحدٍ من معارفي أنهم لا يعرفُون أرحامَهم، قال لي أحدهم: لي عَمَّةٌ لم أَرَهَا فِي حياتي، وقال ثانٍ: بيت خالتي لا أعرفه، وقال ثالث: لم أعلم أن خَالِي من أرحامي؛ إذْ مضى ظَنِّي أن الأرحامَ في النساء دون الرجال، فهذه الإجابات شرٌّ كبيرٌ، وفَسادٌ مُستَطِير، فَوَجَبَ عليكَ أولًا أن تسأل والديك لِتَعلمَ كل رَحِمٍ لَكَ ! فمن عرف نسبه؛ وصل رحمه !

طرق الإمامان عمر وابن عباس ش بوابة قلبك بنصح رقراق، إليكَهُ:

تعلمُّوا أنسابَكُم؛ تَصِلُوا أرحامَكُم، فالرَّحِمُ قريبةٌ بالصِّلَةِ، وبعيدةٌ بالقطيعةِ، والله لو يعلم الرجل ما بينه وبين أخيه من دَاخِلَةِ الرَّحِمِ؛ لأَوْزَعَهُ ذلك عن انتهاكِهِ، وكل رَحِمٍ آتيةٌ يومَ القيامةِ أمام صاحبها، تَشْهَدُ بِصِلَتِه إن كَانَ وَصَلها، وَبِقَطيعَتهِ إن كان قَطَعَها! الإمام البخاري / الأدب المفرد ص (33)، بسند حسن.

إن النِّعَمَ تُحفَظُ بالشكر، وشُكرُهَا الإنفاق منها على من فقدها، فَحَدِّد نعمتك أولًا، ثم أنفق منها ثانيًا؛ ليبارك لك فيها، وَيُزاد لكَ منها، ألم تقرأ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ! خالد أبو شادي / صفقات رابحة ص (119).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين