مشكلات الإلحاد في الأزمنة الحديثة

التقديم للبحث:

يشكل الإلحاد إحدى الظواهر الفكرية والثقافية الأبرز في عصرنا الحاضر، ويتخذ صورا وأشكالا متنوعة جدا، وهو يشكل أيضا الشغل المركزي لأهل الأديان الذين يرون أنفسهم من يوم إلى آخر مهددين وبشكل متعاظم بسبب تقدم العلوم واتساع فتوحاتها!

والموضوع الذي عُرض في هذا البحث موضوع قديم حديث، ولكنه يكتسب اليوم أهمية وخطورة أكبر بسبب استقواء الإلحاد بالعلم الحديث وتسلحه ببعض مكتشفاته ونظرياته وافتراضاته وهالته ونجاحاته، ادعاء وتمسحا.

والواقع أن الإلحاد، عند التحقيق والنظر الدقيق، لم يكن في أي يوم من الأيام أضعف حجة ولا أقل تماسكاً وأبعد عن معطيات العقل الرجيح والمنطق الصحيح والعلم المحقق مما هو عليه اليوم، وفي المائة سنة الأخيرة بالذات !

فالوعي المعرفي المتنامي، والتطور الكبير، والتقدم العلمي الهائل، والاكتشافات العلمية المذهلة، في الفيزياء الذرية، والفيزياء الكونية والفلكية، وفي علم الحياة والخلية، التي تحققت في القرن الماضي قضت على كثير من التكهنات والفرضيات والتفسيرات المتسرعة السابقة، وأقامت محلها معطيات أكثر دقة وأعمق غورا وأبعد عن المجازفات العلمية والغوغائية التي كانت تمارس سابقا باسم العلم والتقدم العلمي! حقا لم تعد المعطيات العلمية الحديثة تسمح للإلحاد بمزيد من المغالطات وأنواع الخداع والخلابة والتلبيس والتجاهل، تلك التي كان يستخدمها لترويج دعاواه وتسويقها لدى بعض المغفلين وأنصاف أو أرباع المتعلمين والمتثاقفين. ولقد اكتشف الكثيرون، من أهل الإنصاف والنباهة، أن دعاوى الإلحاد ليست سوى تأكيدات مجانية وتهويمات خيالية بعيدة عن أية حقيقة علمية ثابتة أو منطق عقلي محكم !

لقد أصبح الإلحاد اليوم عاريا من أي دليل علمي ثابت، أو نظر عقلي مقبول، بل أصبح يقع ويتخبط في مشكلات علمية وعقلية أكثر وأعقد من تلك المشكلات التي كان يزعم أنه يريد أن يقدم حلا حاسما لها، لقد أصبح محصورا في زاوية صغيرة ضيقة، ولم يعد أمامه إلا الهرب من البرهان العقلي القاطع والمقررات العلمية الراهنة، إلى الإحالة إلى حقائق علمية مستقبلية مزعومة، سيكتشفها العلم التجريبي في المستقبل القريب أو البعيد، مؤملا أن تنطلي هذه الأماني العجاف على أهل الفكر العميق والنظر السديد؟!

ولكن عن أي إلحاد نتكلم؟ وما هو الإلحاد الذي نريد أن نجلي الغبار عنه وعن مشكلاته، وخاصة في هذه الأزمنة الحديثة؟ هذا ما سيتضح في هذا البحث.