مشروع نصر قريب : الحلقة السادسة : هل الوطن والمواطنة كفر

 

العدل والتسامح وضبط الحكام أساس بناء الوطن:

قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ رضي الله عنه عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ"! فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ! قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ؛ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ. وأصبر الناس عند مُصِيبَةٍ. وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ. وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ. وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. (صَحِيحٌ، رواه الإمام مسلم وغيره)

الذي يظلم يُلْعَنُ حتى في صلاته:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي: يا أخا المرسلين! ويا أخا المنذرين! أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي، ولأحد عندهم مظلمة! فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي، حتى يرد تلك الظلامه إلى أهلها. فأكون سمعه الذي يسمع به. وأكون بصره الذي يبصر به. ويكون من أوليائي وأصفيائي. ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة".( حَسَنٌ جيد غريب، رواه أبو نعيم وغيره)

 

الوطن والمواطنة:

يهاجم بعض الإسلاميين اليوم كلمة "المواطنة" أو كلمة "الوطن" بشدة وبعنف. وقد يعتبرونها ألفاظ كفر أو شبه الكفر. لكنا وجدنا حين قراءة كلامهم أنهم في الحقيقة لا يعرفون ماذا يهاجمون. فما هو مفهوم "المواطنة" الذي قامت على أساسه الدولة الحديثة يا ترى؟ وهل هو مدان في الإسلام أو هو خطير إلى درجة الكفر أو شبه الكفر.

و لعلنا نعجب أن نعرف أن أقرب مثل لمفهوم "المواطنة والوطن" هو عائلة كبيرة تتألف من عدة عوائل صغيرة تتقاسم جميعها سكن بيت واحد كبير. وتحتمي جميعها تحت سقفه الواحد. فالمواطنة بالتعريف هي: شعور المرء بالأمان والكرامة والانتماء والحماية ضمن "دولة وطن" تصونه وتحميه وتدافع عن حقوقه وكرامته. وقد تدخل حروبا دفاعا عنه.

والوطن هو: الدولة التي استطاعت أن تشعر ناسها بأنها منهم وإليهم فصار أحدهم مستعدا لبذل دمه دفاعا عنها. فيشعر "المواطن" في "وطنه" بانتمائه وأنه قادر على صناعة مستقبله وتنظيمه بالشكل الذي يراه مناسبا ضمن آليات القانون المتفق عليه بين كل المواطنين. فيكون "للـمواطن" في "وطنه" حقوق وعليه واجبات. وله فيه عزوة تحميه وتصونه وتدافع عنه.

أما حقوقه وواجباته فكلها منظمة واضحة شفافة شارك هو نفسه في صياغتها. فيكون بذلك صانع مستقبل بلده على الحقيقة، يزينه ويعليه بكل ما وهبه الله من طاقة وبذل! ويكون قادرا على تغيير ما لا يرضيه فيه بالإقناع والمناقشة والتعليم. في مقابل ذلك يقدم المواطن واجباته من خضوع لقانون يحفظ دينه شارك هو في وضعه عن طريق انتخابات نيابية حرة.

كما يقدم المواطن للوطن أيضا حصته في تكاليف الدولة المالية. تكاليف شارك هو في تقنينها تحصيلا وصرفا من خلال انتخابات المجلس النيابي صاحب مهمة التقنين. وعلى المواطن أيضا بذل الغالي والرخيص في الذود عن حياض الوطن والدفاع عن حدوده إذا احتاج الأمر. وهكذا نجد مفهوم "المواطنة" مفهوما متوازنا لا غبار عليه. ولا يخالف العدل الذي قامت على أساسه الشريعة الإسلامية.

إشكالية مفهوم "المواطنة والوطن" الوحيدة عندنا أننا أُجبرنا على قبوله على مستوى القطر أو الدولة الصغيرة التي رسم حدودها سايس بيكو ولم يتح لنا إلى الآن تطبيقه على مستوى الوطن الكبير! ولعل الوطن الصغير يكون مقبولا مادام أنه أمر مرحلي يمكن تغييره في المستقبل وعندما تحين الظروف المناسبة.

فنتوافق هكذا إذا أن "وطن" المرء، سواء أكان الدولة الصغيرة أم الوطن الكبير، يجب أن يكون تماما مثل بيت العائلة الكبيرة. والدولة مثل العائلة الكبيرة تماما. فهل مفهوم المواطنة هذا قريب من الإسلام أم بعيد عنه؟ وهل يشعر الإنسان العربي أو المسلم اليوم أنه يعيش في وطنه؟ أم أنه يشعر بالاختناق في وطنه وكأنه يعيش في سجن؟؟!! أو أنه يعيش في سجن على الحقيقة، يَتَحَيَّنُ فرصة يفر فيها منه إلى الحرية؟!!

كل إناء بالذي فيه ينضح:

لا يشك أحد أن المستعمر ومنذ 1864 يستخدم من يسميهم "أقليات" كآلات وأدوات في يده لخدمة مصالحه من خلال استغلال بعض منهم ليكونوا مخلب القط بيده. فيستخدمهم ضد أهلهم ومواطنيهم. وهو بذلك يلجأ إلى أقدم خدعة في التاريخ "فرق تسد". تماما كما يفعل النصيريون بنا اليوم خدمة لأسيادهم. وكما فعلت منظمة "بلاك بلوك Black Block " في مصر بعد الثورة أيام الرئيس د. محمد مرسي.

فقد أقام الموتورون من بلاك بلوك بالتنسيق الإيجابي أو السلبي مع الشرطة لإشاعة أعمال التدمير والتخريب وإشعال الحرائق بل وحتى القتل لوأد الاستقرار وتحطيم الشرعية وتنفير الناس من نظام الحرية الجديد. وهكذا حال البشر يمكن استمالة ضعفاء الضمير منهم لخدمة العدو. فترتفع نسبتهم أو تنخفض لكن الحقيقة تبقى أن سوء بعضهم أو حتى الكثير منهم لا يعني سوءهم جميعا. فهناك أيضا نسبة لا بأس بها من السنة في سورية كانوا أدوات بيد المحتل والظلمة من الحكام.

من هنا نقدر قول الله تعالى: {... وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..} [الأنعام: 164]. فلا نأخذ أحدا بجريرة غيره. كما أننا نحن المسلمون من جهة ثانية نعامل الناس بأصلنا وأخلاقنا الإسلامية حتى لو عاملنا الناس بأصولهم. فمن كان حقيرا غادرا معنا لم نكن معه إلا عادلين نبلاء. لا نفعل ذلك لأنه يستحق نبلنا مادام غادرا نذلا، لكنا نفعله لأننا نبلاء على الحقيقة.

يقول الله عز وجل: {... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا...} [المائدة: 2]. مما يوجب علينا الحكم بالعدل حتى ولو لم يلتزمه الناس تجاهنا. إلا نفعل نكن مثلهم ويصبح المسلم مجرما مثله مثل غيره لا يستحق إسلامه وانتسابه لسيدنا محمد نبي الرحمة. من هنا يبتدئ إبصار أسس قيام الدولة الإسلامية ورؤية أسس دولة الصحابة وعلاقتها بمفاهيم المواطنة.

الدولة الإسلامية:

يطالب الكثير من المسلمين اليوم وفيهم بعض طلبة العلم بإقامة دولة إسلامية لكنهم للأسف لا يعرفون حقيقتها. لذلك تجدهم يرونها وكأنها أداة ميكانيكية تحصّل الجزية من أهل الكتاب وتقيم الحدود على المخطئين. وهذه الرؤية القاصرة نتاج طبيعي لمعرفتهم وفهمهم للإسلام وللدولة. ولعلك تجد هؤلاء لا يعرفون أن الإسلام هو إقامة العدل. وتراهم لا يعرفون أن أحب الناس إلى الله "أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ".

و لا يعرفون أن الله سبحانه لم يرسل رسوله إلا رحمة للعالمين. ولا يعرفون أيضا أن الدولة "وطن" يحتمي بظله الناس. من هنا يصعب على أمثال هؤلاء إقامة دولة الإسلام. وهؤلاء أنفسهم هم من تراهم يهاجمون مفاهيم وأشياء كثيرة بسبب عاطفي أو خَوْضٍ مع الخائضين. أما الصحابة رضوان الله عليهم وسلف الأمة فقد عرفوا الإسلام على حقيقته وطبقوه في حياتهم. ولذلك فتحوا العالم فسعد بهم وانساق لهم. كيف لا وقد كانوا رحمة للعالمين.

ورحمة العالمين مقياس خارجي حيادي يشهد به الصديق والعدو. فحبة الأسبرين التي تخفف الآلام رحمة للعالمين لا يشك بذلك أحد. كذلك رحمة الصحابة للعالمين يشهد بها الجميع؛ فقد أدركوا رضوان الله عليهم معاني الإسلام الأساسية التي تسمى "مقاصد التشريع" فحكّموها بنصوصه الفرعية. فلم يصدروا حكما إلا وهو متسق مع المقاصد. و أوضح مثل على ذلك أن سيدنا عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَأَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَقُومُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ. فَقَالَ عمر: مَا أَنْصَفْنَاكَ! أَخَذْنَا مِنْكَ الْخَرَاجَ شَابًّا فَلَمَّا كَبِرْتَ خَذَلْنَاكَ. فَأَجْرَى عَلَيْهِ قُوتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. فأصبح حكم عمر رضي الله عنه سابقة في التاريخ الإسلامي يتسابق الجميع إلى التمسك بها والتفاخر بعدلها.

حتى كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله يقول: وَانْظُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ. فما ظنك أيها المسلم بشعور أهل الذمة تجاه الدولة المسلمة حين يكتب الخليفة في إصلاح حالهم وتحسين أوضاعهم؟ أيشعرون أنهم في دولتهم وبلدهم يحرصون عليه ويدافعون عنه؟

كيف لا وقد روى أنس بن مالك (رض) أن رجلا من أهل مصر أتى إلى عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذا. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته. فجعل يضربنى بالسّوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه ويقدم بابنه معه. فقدم. فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب. فوالله لقد ضربه ونحن نحبّ ضربه فما أقلع عنه حتى تمنّينا أنه يرفع عنه. ثم قال عمر للمصري: ضع على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه. فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟ قال يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني (أي لو علمت لأنصفته).

الدولة الإسلامية الوطن:

فإذا كانت الدولة الإسلامية السلفية تحرص على سكانها ومصالحهم وتحقق لهم العدل والكرامة وتدافع عنهم وتصونهم مهما كان دينهم أو جنسهم أو أصولهم، أفلا تكون وطنا لهم؟ فإذا كان ذلك طبيعيا بالنسبة للمسلمين فلم لا يكون كذلك لغيرهم أيضا؟ خاصة وقد وجدنا في كتاب ربنا سبحانه وتعالى الأمر ببر غير المسلمين والعدل فيهم.

قال الله سبحانه وتعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. ووجدنا رسولنا ص يعلمنا أن خيرنا عند الله هو من كان خيرا لهم إذا جاورونا: "... وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ {عز وجل} خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ". (حسن صحيح الترمذي) إذ لعلنا نعلم جميعا أن لفظة "الجار" تنطبق على الجار مسلما كان أو غير مسلم. مما جعل المسلمين تاريخيا يحسنون لجيرانهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

فالدولة الإسلامية إذا التي تتمسك بمنهج السلف في حقيقتها لا يمكن إلا أن تكون رحمة للعالمين. رحمة لكل الناس من سكانها بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو عرقهم ما داموا لم يقاتلونا ولم يسيئوا. وقد رأينا قبل أسطر كيف فهم الخلفاء من الصحابة ومَن بعدهم معنى نصوص الكتاب والسنة تلك فصانوا مواطنيهم بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو أصولهم. بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه و هو جريح على فراش الموت يوصي الخليفة بعده بأهل الذمة و يوصي بحمايتهم و حسن معاملتهم فيقول:  وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ. فهل نستنتج من ذلك أن الدولة الإسلامية كانت أول دولة مواطنة في التاريخ البشري؟

المُعَاهَد والذِمَّي في الإسلام:

لعل ما لا يعرفه الكثير من المسلمين اليوم أن غير المسلم له من الدولة الإسلامية ما عاهَدته عليه. لا يُظلم ولا يُنتقص من حقه. يروي ثلاثون مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْه أنه قَالَ: " أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا وَانْتَقَصَهُ وَكَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى صَدْرِهِ:

" أَلَا وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" ( صحيح واللفظ للبيهقي) وهكذا للدولة المسلمة أن تعاهد من تشاء على أي عهد تراه مناسبا عادلا بل محسنا إن ارتأت. تحفظ فيه للناس حقوقهم وتقيم به مصالحهم. وتتنبه إلى أن هؤلاء في حضن الدولة فتحسن إليهم أكثر لأنهم أقرب إليها وهي دولة الرحمة للعالمين. وهي دولة الوفاء ودولة تكريم بني آدم. هذا واجبها ومن أجله قامت.

و تحسن الدولة الإسلامية إلى معاهديها أيضا لأن راحتهم وطمأنينتهم تمنع إقامة طابور خامس على أرضها. فالمسلمون في الدولة المسلمة يستفيدون من مثل قول رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّهْنُ يُذْهِبُ الْبُؤْسَ، وَالْكِسْوَةُ تُظْهِرُ الْغِنَى، وَالإِحْسَانُ إِلَى الْخَادِمِ يُكْبِتُ الْعَدُوَّ". (حسن رواه البزار) فالإحسان إلى من في داخل البيت وترفيهه يكسر بابا كبيرا من الشر. ومن في داخل البيت يعرف العورات أكثر من غيره. فإذا شعر أن دولته تعمل على خدمته وترفيهه والدفاع عن مصالحه دافع هو بدوره عن تلك الدولة تماما كما يدافع عنها بقية أبنائها.

فرق تسد والزحلقة السياسية:

لا بد لفهم هذه الفقرة من فهم الفعل المنعكس الشرطي الذي هو باختصار تعويد الإنسان أو المخلوق على سلوك معين إذا ما تعرض لمؤثر معين. ومثاله أن يرن الجرس قبل تقديم الطعام في كل مرة. فيتعلم المخلوق ويرتبط باللاوعي عنده أن الجرس مرتبط بقدوم الطعام. فيصير يسيل لعابه إذا سمع الجرس حتى ولو لم يقدم له طعام. كذلك الأنظمة المجرمة تحاول أن تزرع ردة فعل تناسبها فينا حين تعرضنا لمؤثر معين. فتضمن بذلك سلوكنا بالطريقة التي تريد.

فإذا نجح عدونا في ترويضنا بالشكل الآنف الذكر تهيأ له أن يدفعنا إلى زاوية يحاصرنا فيها حصارا يعيق انتصارنا. ويكتل أنصاره حوله. ويخوف جزءا من الشعب ليضمهم إلى صفه. ويساعد المجتمع الدولي المنحاز ضدنا بإعطائه مبررا يبرر به انحيازه! فيأخذ أربعة عصافير بحجر واحد بطريقة أثبتت نجاحا باهرا في أنبل ثورات البشر. إذ قد استطاع النظام المجرم فعلا أن يقيم ردة فعل عند الكثير من الشعب السوري وفي الثورة تجاه الأقليات لا تفيد أحدا إلا أهدافه القذرة الحقيرة.

فقد نجح المجرم في جعل من سماهم "أقليات" تقتلنا أو تظهر وكأنها. في نفس الوقت لا يبالي العالم بذبحنا لكنه يثور ويقوم ولا يقعد لشوكة قد تصيب واحدا من الأقليات. مما خلق ردة فعل عند الكثير في الثورة أن كلمة "أقليات" إذا أطلقت صارت تثير عنده حالة من الغليان قد تصل إلى الحقد وتمني ذبحهم جميعا. هكذا حقق العدو هدفه فكتلهم في صفه وضم مؤيدين جددا وخوفهم من الكرامة والعدل والحرية التي تبشر بها ثورتنا المجيدة.

و من الجهة الأخرى جَيَّشَ المجرم العالم على الثورة وأنها متوحشة وأنها حرب أهلية من البعض ضد البعض. وحول رابعا الموضوع من ثورة ضد الظلم والعدوان إلى بحث في حقوق الأقليات. حصل كل ذلك لأنه نجح في تأجيج مشاعر زرعها فينا لا تفيد أحدا غيره. بل إننا في الحقيقة لو سقطنا فيما أجج من مشاعر موجهة لخالفنا ديننا وخرجنا على أصالتنا وكرمنا. وساعدنا المجرم على هزيمتنا. لذلك وجب علينا أن نتخذ مواقف واضحة نحقق فيها كرم أصلنا وأصالتنا وتسامحنا. ونحقق فيها إسلامنا تطبيقا عمليا على الأرض.

أخيرا من تَبَيَّنَ له ما سبق عرف أن مخابرات الإجرام قد زرعت فينا مشاعر كثيرة مماثلة لما زرعت فينا تجاه موضوع "الأقليات". من ذلك مثلا تهييج مشاعر الحقد والضغينة تجاه دول معينة لكي لا نستفيد منها شيئا. ومن ذلك أيضا ما تقوم به تلك الأجهزة المجرمة من إشاعة التطرف ودعمه. يكفيها منه أن يقوم بعض أهل الثورة على بعض. ويكفيها أن يتبارون بالتطرف والغلو ونشره.

بعد كل ما سبق يجب أن نعرف أننا في الثورة سندافع أولا و قبل كل شيء عن أغلبيتنا المسحوقة التي نمثلها نحن. وليدافع من شاء عن طائفته و مصالحها. و مادام دفاعه بحق و عدل فسنتعاون معه و ننسق ونبني في سوريا المستقبل وطنا لكل أبناءه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين