مستقبل العالم الاسلامي 2 - عناصر الايجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية
قدمنا في الحلقة السابقة في ركن المستقبل للإسلام الحلقة الأولى من دراسة الدكتور أحمد علي الإمام التي تحدث فيها عن دورات الصراع والتداول الحضاري والتحديات الحضارية المعاصرة وتميز الحضارة الإسلامية وتوجيه الصراع الحضاري وفي هذه الحلقة يتحدث الدكتور عن عناصر الايجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية ، ويتكلم عن صور هجر القرآن في واقعنا المعاصر
عناصر الإيجاب والسلب في مواقفنا ومؤسساتنا الثقافية:
حتى نقف على التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية-كما أسلفنا- لابد من وقفة مراجعة، وتقويم لمواقفنا، ومؤسساتنا، الثقافية، نصحب مراكز الثقافة، وأدواتها، وقدراتها، وطاقتها، لمواجهة المتغيرات، فنبين عناصر الإيجاب، التي أكتسبها،وننبه على أوجه السلب، والقصور، وبيان أسبابها، في محاولة للخروج منها، وتصحيحها، وتقويمها، لتعتدل، وتستقيم في وجه التحديات الحضارية، المعاصرة، والمستقبلية.
أولاً: عناصر الإيجاب:
(أ) للمسلمين رصيد هائل- علماً نظرياً، وعملاً تطبيقياً- في مجالات العلم، والمعرفة، والثقافة، والحضارة.
(ب) المسلمون هم أول من أقام المكتبات، وأنشأ مراكز الترجمة، والمعاهد الأهلية، والشعبية، وكانوا رواداً في كل موضوعات العلوم، وقد بذلوا الجهود العلمية، والمعرفية، وعرفوا بالتسابق العلمي، وتقدير النابغين فيه، مهما كان اختلافهم، وإن كانوا من غير المسلمين، فقد احتوت كتب طبقات العلماء، على تراجم عدد من العلماء، من غير المسلمين، في العلوم الطبية، والهندسية.
(ج) كانت المحاضر، والجوامع الجامعية، في حواضر العالم الإسلامي، تعلم إلى جانب العلوم الشرعية، والعربية، العلوم الطبية، والهندسية، وكانت المحاضر الأندلسية، تستقبل الطلاب من أوربا وغيرها.
(د) لم يعرف المسلمون هذا الانفصال بين ما يسمى بالعلوم العصرية، والعلوم الدينية، إلا على آخر عهود السلاطين العثمانيين، وكان هذا الانفصال من أخطر ما أثَّر في تخلُّف المسلمين علمياً.
(هـ) ومن إيجابيات حضارتنا، أن العلماء، والفقهاء- على بعض الفترات انفتحوا للعصر، والحال، بفهم للواقع، وفقه للمرحلة التي يعيشونها، مع سعة أفق، وعمق إدراك، وصاروا يعالجون المشكلات المستجدة، والقضايا المتجددة، والحوادث العارضة.
(و) يطبقون الشريعة، وفق مقتضيات العصر والحال، مع التفريق بين الشريعة، والتطبيق الفقهي، ومراعاة ظروف المجتمع، ولهذا كان استخدام العرف.. ومن المعلوم عند أهل أصول الفقه، أنه لا ينكر تغير الأحكام والفتوى، لتغير الأزمنة، والأحوال، والعوائد، والنيات.. ومن طريف ما يذكر هنا، حكاية العلامة زروق الفاسي(ت899) في شرحه لرسالة بن أبي زيد القيرواني، أن الشيخ أبا محمد بن أبي زيد القيرواني(ت386)، صاحب الرسالة المشهورة في فقه المالكية، انهدم حائط بيته، وكان يخاف على نفسه من بعض الطوائف، فربط في موضعه كلباً، اتخذ للحراسة، فقيل له: إن مالكاً يكره ذلك فقال رحمه الله : لو أدرك مالك زمانك، لاتخذ أسداً ضارياً!؟.
(ز) ولابد هنا من إشارة إلى الومضات، والإضاءات التجديدية، والاجتماعية، بين عدد من قادة الحركات، والمؤسسات الإسلامية، في عالمنا المعاصر، مما يبشر بمستقبل زاهر.
ثانياً: عناصر السلب:
إن كانت تلك هي بعض عناصر الإيجاب في مواقفنا، ومؤسساتنا الثقافية، في عصرنا، وعالمنا، فإن من أخطر عناصر السلب، ومظاهر القصور:
(أ) عدم استكمال جهود التأصيل، والتعريب، في مؤسساتنا العلمية، مع مضي هذه العقود من سنوات استقلالنا‍‍‍‍‍‍‍. مما يعني ضعف إرادة البناء، والتبعية الثقافية للغرب.
(ب) الاشتغال بدراسة اللغات الأوربية، في برامج التعليم العالي، على حساب حاجات أمتنا الفعلية، وأولوياتنا الحضارية.
(جـ) عدم التخطيط للمستقبل، بما يكافئ حجم الأخطار، التي تواجهها أمتنا، ومازال ما يسمى بالعالم الثالث، ونحن جزء منه، ينفق مالا يزيد عن 30% فقط مما ينفق، على الخطط، والبرامج المستقبلية.
(د) ومما يؤثر سلباً على علاقتنا الثقافية، ضعف التبادل التجاري، والمعاملات بين الدول الإسلامية، حيث لا تتجاوز نسبة 10% بينما تبلغ نسبة 90% مع الدول الغربية، مع ما عرفت به من احتكار، واستغلال لمنتجاتنا الإسلامية، فضلاً عن عدم قيام سوق إسلامية مشتركة، في مواجهة السوق الأوربية المشتركة، وغيرها من التكتلات الاقتصادية الأخرى.
(هـ) العلاقات الدبلوماسية، بصورتها القديمة، صارت متخلفة.. فالعلاقات بين الدول، حوار ثقافي في المقام الأول، حتى في العلاقات الاقتصادية، والتبادل التجاري، وهو حوار كامل، قد يعبر عنه المثقفون بصورة شاملة، تؤدي إلى حسن الفهم المشترك، والتواصل.
(و) التبعية الفكرية، والتقليد، والكتب المدرسية المذهبية، التي سادت في الفكر الإسلامي، وعطلت تجديد الفكر.
(ز) الاشتغال بالبحوث النظرية، النمطية دون أصالة، أو تجديد، أو اجتهاد، وهي بحوث آلية، لا تبعث روحاً، ولا تزيد عن كونها تمارين رياضية.. وشيء عجيب أن مؤسسات كثيرة في التعليم، العالي خاصة، تخرج حملة شهادات عليا، يترفعون، ويترقون في سلك الأستاذية، دون أن يقدموا إضافات علمية مقدرة، ولكن:
أما الديار فإنها كديارهم….. وأرى نساء الحي غير نسائه
(جـ) فهم بعض مؤسساتنا، وأفرادنا، وجماعتنا، للتراث، وجهود سلفنا العظام، فهماً، لا يبلغ الشمول، والتكامل، ولا يراعي الوحدة الموضوعية في فهم النصوص، ولا يراعي الحاضر، والعصر، الذي نحن فيه، بتدبر، وتبصر، وفقه.
(ط) استغلال الغرب لبعض المقصرين من أفراد، وجماعات، واستخدامهم لمصالحه، على حساب المسلمين، تعطيلاً لجهودهم، في العودة، وكسب الصراع، وإيقافاً لمسيرتهم، حتى ساقهم، بكثرة الطرق والإثارة، إلى مواطن الخلاف، يؤجج نار الفتنة بين المسلمين، لصرفهم عن طريق النصر، والعزة، والتمكين، بل ينعطف بهم عن هم التمكين، والتفاعل مع الواقع، والعصر، إلى الثرثرة، والجدل، والمراء.. وبسبب ذلك مازلنا نتناظر حول المتشابهات، ونتجادل حول غسل، أو مسح قدم، حتى صار بعضنا لا يملك من الأرض، موضع قدم!!
(ي) انحراف بعض المؤسسات الفكرية، والثقافية، وبعض أفرادنا وجماعاتنا، وراء الغرب، تنادي بتجزيء الإسلام، وتبعيضه بين إسلام أصولي، وإسلام سياسي، وإسلام صوفي، فصلاً، بين الدين والسياسة، وتخذيلاً لروح الجهاد، والاجتهاد، والتأصيل، بينما الدين كلمة شاملة، جامعة للمعاني، العلمية والعملية، التي تقيم الحياة الدنيا، والآخرة.
(ك) هجرة كثير من المؤسسات الثقافية، في العالم الإسلامي- خاصة تلك التي تدرس وتبث العلوم المدنية والطبيعية- للقرآن، مخاصمة له، مجافية إياه، مبعدة له عن تلك العلوم، والمعارف.. فتدرس هذه العلوم، كأن ليس للقرآن فيها دخل، أو علاقة، مع أنه أنزله رب العزة، تبياناً، لكل شيء.
وهجر القرآن في واقعنا المعاصر، اتخذ صوراً ثلاث:
الأولى :الفصل بين كتاب الله المقروء، وكتابه المنظور، أي الكون.
الثانية :الأمية، وأعني بها الأمية الحضارية، والثقافية، والدينية، وأمية الحرف.
الثالثة :القصور عن فهم عالمية الدعوة.
1- الفصل بين الكتاب المقروء والكتاب المنظور: الفصل بين كتاب الله المقروء، وهو القرآن، وكتاب الله المنظور، وهو الكون، يشكل في خارطة همومنا اليوم، تحديا كبيراً.
ولابد من إنهاء هذا الفصام، وإزالة الخصام، بين المصحف والكون، في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، حتى يكون الذي يتلو القرآن، ناظراً في الكون، يتأمل خلق السماوات والأرض، ويتدبر سر التوافق بين الأجرام، والتوازن بين الكواكب، ليهتف في الآخر مقراً موقناً :(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة :138)، (ما خلقت هذا بطلاً سبحنك ) (آل عمران:191)، ويدرك سر وجوده:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56).
لهذا ندب القرآن قارئيه، بالسير في الأرض، تنقيباً للخيرات، وطلباً للأرزاق، وأعمارا للكون، واعتباراً بسننه، وقوانينه، ونواميسه :(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت:20) (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدًى وموعظة للمتقين ) (آل عمران :137-138)، (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (غافر:57)، وهذا هو سبيلنا إن أردنا حقاً أن يكون القرآن دستورنا.
2- الأمية:
أن تبقى الأمية في العالم الإسلامي، إلى يوم الناس هذا، أمر لا ينبغي أن يكون، لأنه بدون محوها وإبعادها عنا تماماً، لا يمكننا إقامة أي صرح لحضارتنا، إذ أن حضارة الإسلام قام أساسها على :(اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1-2)، فكانت (اقرأ)، أو الأمر بالقراءة، أول كلمة تتنزل من السماء الدنيا، على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حقيقة الإشكال، ليست في الأمية الحرفية، بقدر ما هي في الأمية الثقافية، التي لا تعي الكتاب، وإن نظرت فيه، لا تتدبره، وإن قرأت آياته.. إنها الأمية التي تجعل أصحابها يقيمون حروف الكتاب، ويضيعون حدوده، وقد نعى الله تعالي هؤلاء فقال :(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد :24)،(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) (ص:29)..هذه هي حقيقة الإشكال: الأمية التي لا تعي الكتاب، ولا تتدبره،ولا تتفاعل دينياً مع مشكلات العصر.
3- القصور عن فهم عالمية الرسالة:
إن القصور عن فهم عالمية الكتاب، يفضي إلى القصور في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة في العالمين، وقد قامت الأدلة على عالمية الرسالة منذ العهد الملكي في تنزيل القرآن العظيم:(وما هو إلا ذكر للعلمين ) (القلم :52) (إن هو إلا ذكر للعلمين ) (التكوير:27)، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيراً ) (الفرقان:1).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً للكتاب الذي أنزل عليه، رسولاً للعالمين، ورسالته رسالة عالمية :(قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) (الحج:49)، (وما أرسلنك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) (سبأ:28)، (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107)، وأمته من ورائه أمة عالمية، همّها دولي، ودعوتها للبشرية، وما أخرجها الله إلا للناس، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر:( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين