كان عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه نسيج وحده في الناس، أمّة قانتاً لله، ومدرسة متميّزة المعالم
والسمات، في الوعظ بالموت وما بعده، أحيا في الناس حقيقة الزهد في الدنيا،
والاستعداد للآخرة، بمحاسبة النفس والاجتهاد في العمل، وقد أثر عنه من ذلك الشيء
الكثير:
عن عبد الله بن عياش
عن أبيه: أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شيّع جنازة، فلمّا انصرفوا تأخّر عمر
وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليّها
تأخّرت عنها، فتركتنا وتركتها ؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد
العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبّة ؟ قلت: بلى، قال: خرّقت الأكفان، ومزّقت
الأبدان، ومصّصت الدم، وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟ قلت: بلى، قال:
نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من
الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثمّ
بكى عمر فقال: ألا إنّ الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، وشبابها
يهرم، وحيّها يموت، فلا يغرنّكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من
اغترّ بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقّقوا أنهارها، وغرسوا أشجارها،
وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرّتهم بصحتهم، وغرّوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنّهم
كانوا والله في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع
التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا
على أسرّة ممهّدة، وفرش منضّدة، بين خدم يخدمون، وأهل يُكرمون، وجيران يعضُدون،
فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومرّ بعسكرهم، وانظر إلى
تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى
من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى
اللذّات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة،
ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفّرت الوجوه، ومحت المحاسن،
وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم
وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم، والله ما زوّدوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا
غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات،
أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمّة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين
العمل، وفارقوا الأحبّة.؟!
فكم من ناعم وناعمة
أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزّقة، قد سالت الحدق
على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبّت دواب الأرض في أجسادهم، ففرّقت
أعضاءهم، ثمّ لم يلبثوا والله إلاّ يسيراً حتّى عادت العظام رميماً، قد فارقوا
الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوّجت نساؤهم، وترددت في الطرق
أبناؤهم، وتوزّعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغضّ
الناضر فيه، المتنعّم بلذته.
يا ساكن القبر غداً
ما الذي غّرك من الدنيا ؟ هل تعلم أنّك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك
المطّرد ؟ وأين ثمرك الناضر ينعه ؟ وأين رقاق ثيابك ؟ وأين طيبك ؟ وأين بخورك ؟
وأين كسوتك لصيفك وشتائك ؟ أما رأيته قد نزل به الأمر، فما يدفع عن نفسه وجلاً،
وهو يرشح عرقاً، ويتلمّظ عطشاً، يتقلّب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من
السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما لا تمتنع منه، هيهات
هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفّن الميت وحامله، يا مخليه في
القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأيّ خدّيك بدأ
البلى، يا مجاور الهلكات، صرت في محلّة الموتى، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك
الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثّل:
تسر بما يفنى وتشغل
بالصبا ** كما غُر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو
وغفلة ** وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره
غبّه ** كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى
بعد ذلك إلاّ جمعة ".
وقال رضي الله عنه:
أنا ميت، وعزّ من لا
يموت ** قد تيقنت أنني
سأموت
ليس ملك يزيله الموت
ملكاً ** إنما الملك ملك من لا يموت.
وقال رضي الله عنه:
" يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنّكم لا تؤتون نعمة
إلاّ بفراق أخرى، وأيّة أكلة ليس معها غصّة، وأيّة جرعة ليس معها شرقة.؟! وإنّ أمس
شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإنّ اليوم حبيب مودع، وهو وشيك
الظعن، وإنّ غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنّه لا أقوى من
طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سَفْر تحلّون عقد رحالكم في غير هذه الدار،
إنما أنتم فروع أصول قد مضت، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.؟ " حلية الأولياء
2/386/.
وخطب رضي الله عنه
بالشام على منبر من طين، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ تكلّم بثلاث كلمات فقال:
" أيّها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم،
واعلموا أنّ رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حيّ لمُغرَق له في الموت. والسلام عليكم
".
وقال رضي الله عنه:
أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، والله إن
عبداً ـ أو قال رجلاً ـ ليس بينه وبين آدم إلاّ أب له قد مات لمغرق له في الموت.
وكتب رضي الله عنه
إلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه بابنه: " أمّا بعد ؛ فإنّا
قوم من أهل الآخرة أسكِنّا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت،
يعزّيه عن ميت. والسلام ".
وخطب رضي الله عنه
مرّة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيّها الناس ! إنّ الله تعالى خلق خلقه،
ثم أرقدهم، ثم يبعثهم من رقدتهم، فامّا إلى جنة، وإمّا إلى نار، والله إن كنّا
مصدّقين بهذا إنّا لحمقى، وإن كنّا مكذّبين بهذا إنّا لهلكى ". ثم نزل.
وقال عبد الله بن
المفضّل التميميّ: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن صعد المنبر
فحمد الله، وأثنى عليه ثمّ قال: " أمّا بعد ؛ فإنّ ما في أيديكم أسلاب
الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنّكم في كلّ يوم وليلة
تشيّعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض، ثمّ في بطن الصدع،
غير ممهّد ولا موسّد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب،
فقير إلى ما قدم أمامه، غنيّ عمّا ترك بعده. أما والله إنّي لأقول لكم هذا، وما
أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي "، قال: ثمّ قال بطرف ثوبه على
عينه فبكى ثمّ نزل، فما خرج حتّى أخرج إلى حفرته.
وكتب رضي الله عنه
إلى رجل: " أمّا بعد ؛ فإني أوصيك بتقوى الله، والانشمار لما استطعت من مالك،
وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنّك والله ذقت الموت، وعاينت ما بعده بتصريف
الليل والنهار، فإنّهما سريعان في طيّ الأجل، ونقص العمر، لم يفتهما شيء إلاّ
أفنياه، ولا زمن مرّا به إلاّ أبلياه، مستعدّان لمن بقي بمثل الذي أصاب من قد مضى،
فنستغفر الله لسيّء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيّانا على ما نعظ به مما نقصر عنه
".
وكتب رضي الله عنه
إلى بعض عماله: " أمّا بعد ؛ فكأنّ العباد قد عادوا إلى الله، ثمّ ينبّئهم
بما عملوا: { ليجزي
الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى }، فإنّه لا معقب
لحكمه، ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقّه الذي استحفظه عباده، وأوصاهم به،
وإنّي أوصيك بتقوى الله، وأحثّك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من
كرامة، فإنّ نعمه يمدّها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى
يغشاك، ولا مناص منه ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدّته، ثمّ كن مما أوتيت
من الدنيا على وجل، فإنّ من لا يحذر ذلك، ولا يتخوّفه توشك الصرعة أن تدركه في
الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثمّ اقتصر عليه، فإنّ فيه
لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتّى تؤثره على الجهل، ولا الحقّ حتى تذر
الباطل، فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته
" حلية الأولياء 2/387/.
وقال رضي الله عنه
لرجل من جلسائه: أبا فلان لقد أرقت الليلة تفكّراً، قال: فيم يا أمير المؤمنين ؟
قال: في القبر وساكنه، إنّك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد
طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد، وتخترقه
الديدان، مع تغيّر الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة، وطيب الريح، ونقاء الثوب،
ثمّ شهق شهقة وخر مغشيّاً عليه. فقالت فاطمة: يا مزاحم ويحك، أخرج هذا الرجل عنا
فلقد نغّص على أمير المؤمنين الحياة منذ ولى، فليته لم يل، قال: فخرج الرجل، فجاءت
فاطمة تصب على وجهه الماء وتبكي، حتّى أفاق من غشيته، فرآها تبكي، فقال: ما يبكيك
يا فاطمة ؟ قالت: يا أمير المؤمنين رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بين يدي
الله للموت، وتخلّيك من الدنيا، وفراقك لنا، فذاك الذي أبكاني. فقال: حسبك يا
فاطمة فلقد أبلغت. ثمّ مال ليسقط فضمّته إلى نفسها، فقالت: بأبي أنا يا أمير
المؤمنين ما نستطيع أن نكلّمك بكل ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل على حاله تلك حتّى
حضرته الصلاة، فصبّت على وجهه ماءً ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق
فزعاً.
وقال عبد السلام
مولى مسلمة بن عبد الملك: بكى عمر بن عبد العزيز
فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلمّا تجلّى عنهم العبر
قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت ؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف
القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال: ثم صرخ وغشي
عليه.
وعن قتادة أن عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى وليّ العهد من بعده: " بسم الله الرحمن
الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك، سلام
عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد ؛ فإنّي كنت وأنا دنف من
وجعي، وقد علمت أنّي مسئول عما وليت يحاسبني عليك مليك الدنيا والآخرة، ولست
أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً، يقول فيما يقول: { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا
غائبين }، فإن يرض عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهوان الطويل، وإن سخط على
فياويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلاّ هو أن يجيرني من النار
برحمته، وأن يمنّ علي برضوانه والجنة، فعليك بتقوى الله، والرعيّة الرعيّة ! فإنّك
لن تبقى بعدي إلاّ قليلاً، حتّى تلحق باللطيف الخبير. والسلام ".
وعن عبد الرحمن بن
يزيد بن جابر، قال: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى يزيد بن عبد الملك في
مرض عمر الذي توفي فيه فذكر نحوه، وقال: " وأنا مشفق مما وليت لا أدري على ما
أطّلع، فإن يعف عني فهو العفوّ الغفور، وإن يؤاخذني بذنبي فيا ويح نفسي إلى ماذا
تصير.؟! " حلية الأولياء 2/390/.
وكتب عمر رضي الله
عنه إلى ابنه في العام الذي استخلف فيه ـ وابنه إذ ذاك بالمدينة يقال له عبد الملك
ـ أمّا بعد: " فإنّ أحقّ من تعاهدت بالوصيّة والنصيحة بعد نفسى أنت، وإنّ
أحقّ من رعى ذلك وحفظه عني أنت، وإنّ الله تعالى له الحمد قد أحسن ألينا إحساناً
كثيراً بالغاً في لطيف أمرنا وعامّته، وعلى الله إتمام ما عبر من النعمة، وإيّاه
نسأل العون على شكرها، فاذكر فضل الله على أبيك وعليك، ثمّ أعن أباك على ما قوي
عليه وعلى ما ظننت أنّ عنده منه عجزاً عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك،
فراع نفسك وشبابك وصحّتك، وإن استطعت أن أكثر تحريك لسانك بذكر الله حمداً
وتسبيحاً وتهليلاً فافعل، فإنّ أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وذكره، وإن
أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمد الله وذكره، ولا تفتننّ فيما أنعم الله به عليك
فيما عسيت أن تفرط به أباك فيما ليس فيه، إنّ اباك كان بين ظهراني إخوته عند أبيه يفضل
عليه الكبير، ويدني دونه الصغير، وإن كان الله وله الحمد قد رزقني من والدي حسباً
جميلاً، كنت به راضياً أرى أفضل الذي يبرّه ولده عليّ حقاً، حتّى ولدت وولد طائفة
من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغباً في الجنّة وهارباً
من النار فالآن في هذه الحالة والتوب مقبول، والذنب مغفور، قبل نفاذ الأجل،
وانقضاء العمل، وفراغ من الله للثقلين ليدينهم بأعمالهم، في موطن لا تقبل فيه
الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيّات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس
بأعمالهم، ويصدرون فيه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل
يومئذ لمن عصى الله، فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأدّ إلى
الله فرائض حقّه في مالك، وقل عند ذلك ما قال العبد الصالح: { هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر }.
وإيّاك أن تفخر
بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيّل إليك أنّ ما رزقته لكرامة بك على ربك، وفضيلة على
من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر نزلت منازل أهل الفقر، وكنت ممّن
طغى للغنى، وتعجّل طيّباته في الحياة الدنيا، فإنّي لأعظك بهذا، وإني لكثير
الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أنّ المرء لم يعظ أخاه حتّى يحكم
نفسه، ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه، إذاً تواكل الناس الخير، وإذاً يرفع الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، واستحلّت المحارم، وقل الواعظون، والساعون لله
بالنصيحة في الأرض: { فلله الحمد ربّ السموات والأرض
ربّ العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
وكتب رضي الله عنه
إلى بعض عماله: " أمّا بعد ؛ فإني أوصيك بتقوى الله، ولزوم طاعته، فإنّ بتقوى
الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبياءهم، وبها
نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب
يوم القيامة، ولم يقبل ممّن بقي إلاّ بمثل ما رضى عمّن مضى، ولمن بقى عبرة فيما
مضى، وسنّة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص
إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون ؟ وكيف يتفرقون ؟ ورأيت الموت كيف
يعجل التائب توبته، وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه ؟ وكفى بالموت موعظة بالغة،
وشاغلاً عن الدنيا، ومرغّباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شرّ الموت وما بعده، ونسأل
الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضرّ
بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أنّ القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك
أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك
الله بفقر فتعفف في فقرك، وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما
ذوى منك من نعمة الدنيا فإنّ في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية.
واعلم أنّه لن يضرّ عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من
فقر أو بلاء، وأنّه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا
من نعمة أو رخاء، وما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، وما يجد أهل النار
طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كلّ شىء من ذلك كأن لم يكن.
تشيّعون غادياً أو
رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه
غير متوسّد ولا متمهّد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب،
مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدّم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت،
وانقضاء موافاته، وأيم الله إنّي لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من
الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه " حلية الأولياء 2/392/.
وعن سالم بن عبد
الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إليه: من عبد الله عمر أمير
المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ
هو، أمّا بعد ؛ فإنّ الله ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها،
ولا طلبة مني لها، إلاّ قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة
بما ابتلاني أن يعينني على ما ولاّني، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة،
وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلي بكتب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإنّي متّبع أثر
عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام ".
فكتب إليه سالم بن
عبد الله: " بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد
الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو،
أمّا بعد ؛ فإنّ الله خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدّة قصيرة، كأن ما بين أولها
وآخرها ساعة من نهار، ثمّ قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: { كل شيء هالك إلاّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون }. لا
يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها، أنزل بذلك كتابه، وأرسل بذلك رسله،
وقدّم فيه بالوعيد، وضرب فيه الأمثال، ووصل به القول، وشرع فيه دينه، وأحل الحلال،
وحرّم الحرام، وقصّ فأحسن القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين فجعله ديناً
واحداً فلم يفرق بين كتبه، ولم تختلف رسله، ولم يشق أحد بشيء من أمر سعد به أحد،
ولم يسعد أحد من أمره بشيء شقي به أحد، وإنّك اليوم يا عمر لم تعد أن تكون إنساناً
من بني آدم، يكفيك من الطعام والشراب والكسوة ما يكفي رجلاً منهم، فاجعل فضل ذلك
فيما بينك وبين الربّ الذي توجّه إليه شكر النعم، فإنّك قد وليت أمراً عظيماً ليس
يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك
وأهلك فافعل، ولا قوة إلاّ بالله، فإنّه قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا،
وأماتوا ما أماتوا من الحقّ، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال، ونشأوا
فيه، وظنوا أنها السنة، ولم يسدّوا على العباد باب رخاء إلاّ فتح عليهم باب بلاء،
فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلاّ سدّ به
عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله، فإنّك إذا
كنت تنزع لله، وتعمل لله أتاح الله لك رجالاً، وكلأك بأعوان الله، وإنما العون من
الله على قدر النيّة، فإذا تمّت نيّة العبد تمّ عون الله له، ومن قصرت نيّته قصر
من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد
بظلم، ويجيء من كان قبلك وهم غابطون لك بقلّة أتباعك، وأنت غير غابط لهم بكثرة
أتباعهم فافعل، ولا قوة إلاّ بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزع الموت الذي كانوا
منه يفرّون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينهم التي كانت
لا تنقضي لذاتها، واندقت رقابهم في التراب غير موسّدين بعد ما تعلم من تظاهر الفرش
والمرافق، فصاروا جيفاً تحت بطون الأرض تحت آكامها، لو كانوا إلى جنب مسكين تأذى
بريحهم، بعد إنفاق ما لا يحصى عليهم من الطيب، كان إسرافاً وبداراً عن الحقّ،
فإنّا لله، وإنّا إليه راجعون " حلية الأولياء 2/397/.
وزاد في رواية:
" ما أعظم يا عمر وأفظع الذي سبق إليك من أمر هذه الأمة ؟! فأهل العراق
فليكونوا من صدرك بمنزلة من لا فقر بك إليه، ولا غنى بك عنه، فإنّهم قد وليتهم
عمال ظلمة قسموا المال، وسفكوا الدماء، فإنّه من تبعث من عمالك كلّهم أن يأخذوا
بجبية، وأن يعملوا بعصبية، وأن يتجبروا في عملهم، وأن يحتكروا على المسلمين بيعاً،
وأن يسفكوا دماً حراماً. الله الله يا عمر في ذلك، فإنك توشك إن اجترأت على ذلك أن
يؤتى بك ضغيراً ذليلاً، وإن أنت اتّقيت ما أمرتك به وجدت راحته على ظهرك وسمعك
وبصرك، ثم إنّك كتبت إلى تسأل أن أبعث إليك بكتاب عمر بن الخطاب
وسيرته وقضائه في المسلمين وأهل العهد، وإنّ عمر رضي الله عنه عمل في غير زمانك،
وإنّي أرجو إن عملت بمثل ما عمل أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر، وقل كما قال
العبد الصالح: { وما
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي
إلاّ بالله، عليه توكلت، وعليه أنيب }. والسلام عليك " حلية الأولياء
2/396/.
وقال توبة العنبري:
أرسلني صالح بن عبد الرحمن إلى سليمان بن عبد الملك، قال: فقدمت عليه وعنده عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه فقلت لعمر: هل لك في حاجة إلى صالح ؟ قال: فقل له: "
عليك بالذي يبقى لك عند الله، فإن ما بقي عند الله بقي عند الناس، ومالم يبق عند
الله لم يبق عند الناس".
وزار محمد بن كعب
القرظي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما استخلف فرآه شعثًا فقال: "...
وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم، ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه
نظرًا، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت
تنظره إلي قبل ؟ قال فقلت: لعجبي ! قال: وممّ عجبك ؟ فقلت: لما نحل من جسمك، ونفى
من شعرك، وتغير من لونك ؟ قال: وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي
على وجنتي، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم ! " تفسير
الطبري 8/1459/، و " نفى الشعر": ثار وذهب وشعث وتساقط.
وفي رواية الحاكم عن
محمد بن كعب القرظي قال: لقيت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بالمدينة في شبابه
وجماله وغضارته، قال: فلما استخلف قدمت عليه فاستأذنت عليه فأذن لي فجعلت أُحِدّ
النظر إليه فقال لي: يا ابن كعب ما لي أراك تحد النظر ؟ قلت: يا أمير المؤمنين لما
أرى من تغير لونك ونحول جسمك ونفار شعرك، فقال: يا ابن كعب فكيف لو رأيتني بعد
ثلاث في قبري ؟! وقد انتزع النمل مقلتي، وسالتا على خدي، وابتدر منخراي وفمي
صديداً، لكنت لي أشدّ إنكاراً.. المستدرك على الصحيحين للحاكم 18/71/.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول