محمد علي دولة

 

رحمه الله

1939 – 29/1/2016

نجم طوى الموت شراعه...

لكنّ... مراكبه ستبقى منارات في بحار المعرفة

 

صنع من الحرف سيفاً وهاجاً، ليحارب غرابيب الفكر الأسود، أكرمه ربه بحمل رسالة القلم لينزع الغشاوة عن العيون التائهة في منعرجات الجاهلية.

أصغى لرسالة القلم كما أرادها المولى، وطلب من ربه أن يشرح صدره وييسر أمره، وأن يعينه للوصول إلى بساتين الإيمان لكي يحصد فيها كتباً قيمة، تكشف الستر عن فكر قارون وهامان وأتباعهما، الذين يحملون راية الشيطان.

حمل الأستاذ الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – أمانة الكلمة المؤمنة خمسين عاماً، وأرسلها شهباً تدك الباطل وأهله، وقذفها نوراً في قلب وعقل من خشي الرحمن وقال سلاماً.

نور القلم، أزعج من ربط حياته بالظلام، وعشق الكهف وعناكبه، فطار القلم مهاجراً، ليغرد بلسماً مزاجه حروف تتعانق بالنور وترسم على صفحة الحياة السعادة لكل من عبد ربه، وانتظر فرجه الأقرب.

الكلمة المؤمنة لا يستطيع أن يحملها إلا من أكرمه المولى بنور قلبي، وروح تخشى خالقها، ونفس مطمئنة، وعيون تدمع، وحواس تخشع، هذه الكلمة عانقت الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – خمسين عاماً وصنعت من حروفها أنهاراً سقت العقول في أزمان تكدرت فيها المياه.

فقيدنا رحمه الله، رجل دعوة وعمل، فالإسلام سكن قلبه، فنوّر روحه، وجعله عطراً لمن اقترب منه، أنس به كل من عرفه، ومدحه كل من عمل معه، وسعد كل من جالسه وسمع حديثه، اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه، وأكرم نزله.

أقف أمام أنواره وأعمدة أعماله، ومناهل فكره، وبذور معارفه، وسنابل حصاده، أتلمس بعض الأمور التي تسطع أمامي من سيرته المضيئة، وأنا أدرك أن حصاد عمره يحتاج إلى كتب ينهض بها تلامذته ومحبوه، وهم كثيرون بفضل الله.

 

نشأته وتعليمه:

ولد فقيدنا في بلدة الجمال والنماء (الكسوة( وهي من مدن غوطة دمشق الغربية، وتقع على طريق دمشق – درعا، وأخذ من والديه عطر الإيمان والخوف من الله ومحبة رسول الله، أسرة هانئة وادعة، الأب الشيخ سليم دولة المؤمن الخاشع، والأم عائشة السكري الراكعة الساجدة، منح الوالدان طفلهما محمد علي عصارة نفسيهما من طيب نفس وسماحة خلق وعفة لسان، ونوّرا قلبه بالقرآن ومحبة رسول الله، وأخذه والده منذ صغره إلى ( الكُتّاب ) ليتعلم تلاوة القرآن عند الشيخ (توفيق المغربي(  فكان خير طالب، وأجود حافظ لكتاب الله، دفع به أبوه عام 1947م إلى المدرسة الإبتدائية في الكسوة، لكنه استمر في تردده على المسجد للصلاة سماع دروس شيخ البلدة الشيخ ) حسين سمارة )  و أثرت في نفسه كلمات (محمد علي شحادة) مدير المدرسة الابتدائية. الإيمان والعمل الصالح ينبت في قلب الإنسان منذ بدء الطفولة. وتنمو غراس الإيمان، ويقوي عودها مع الزمن، وارتفعت أسنة محبة الوطن في نفسه في المرحلة الابتدائية حين شارك في أفراح عيد الجلاء، وأدرك أن قيمة الإنسان في حريته، وأن الحرية طوق النجاة للإنسانية، وأن المستعمر ظالم، وأن الإسلام حرر الناس من العبودية.

سعادة فقيدنا أصابها الوهن وهو غض الإهاب، لين البناء، حين فقد والده الشيخ سليم – رحمه الله – عام 1948م، وهو فتى ابن تسع سنوات، أصبح يتيماً، لكنّ أم (عائشة السكري ) ضمته إلى صدرها، وأيقظت فيه الهمة والعزيمة والصبر، فنهض فارساً يخطف العلم ويسابق أقرانه، فالأم الواعية تبني أبناءها كما يبني الرجال أبناءهم، تجعلهم عقولاً واعية وأحباراً نضرة، وآمالاً حافزة.

عندما انتهى فقيدنامن المرحلة الابتدائية، أرسلته أمه إلى دمشق، فانتسب إلى  (جمعية الغراء(  التي تشرف على ) المعهد الشرعي(  في عام 1953م سعت أمه لذلك، ليفوز ابنها بخير الدنيا والآخرة.

مدة الدراسة في المعهد (6) سنوات، يقوم بالتدريس في المعهد كوكبة من العلماء الأفاضل، نورهم يسعى بين أيديهم، وألسنتهم مطايا خير وعلم وأرواحهم مظلات تقى تحتضن طلابهم، تعلق بهم طلابهم، وساروا على دربهم. من أبرزهم:

أحمد المقداد البصروي، أستاذ الفقه الشافعي.

الشيخ عبد الكريم الرفاعي، أستاذ العقيدة والفقه الأصولي.

الشيخ خالد الجباوي، أستاذ النحو والبلاغة.

الشيخ عبد الرحمن الطيبي الزعبي، أستاذ التفسير والحديث.

الشيخ عبد الغني الدقر، أستاذ الأدب والنحو واللغة.

الشيخ نايف العباس، أستاذ الفرائض والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وكان أحبهم إلى قلبه، وأشد تأثراً به.

تأثر فقيدنا بأساتذته من العلماء الربانيين، كما تأثر بالعالم المسلم ) أبو الحسن الندوي(  عندما زار المعهد الشرعي، وألقى في كل صف موعظة قصيرة، ومبادرته بالسلام على كل طالب من طلاب الصف، وازداد تأثره بالشيخ العالم  )أبو الحسن الندوي(  حين حضر محاضراته على مدرج جامعة دمشق، وكانت محاضراته عن )رجال الفكر والدعوة(  سنة  1956م، وقد أكرم الله فقيدنا بطبع هذه المحاضرات في (4) مجلدات.

بعد أن تخرج فقيدنا من (معهد العلوم الشرعية(  التحق بكلية الشريعة بجامعة دمشق، تمكّن الإسلام في قلبه، وأحب أن يعيش مع حلاوة الإيمان، ونور العقيدة، وظلال شريعة الله، ليقطف ثمار المحبة لله مع العابدين العالمين.

كان سعيداً في عام 1960م وهو يدخل كلية الشريعة، وقد ملأ السرور أركان نفسه، فنفسه توّاقة إلى التعمق في مبادئ الدين، والسباحة في حياض الإيمان ونشر سماحة الإسلام وعلومه بين الناس واقتلاع معاول الهدم التي أطلقها المفسدون، أدرك وهو يدخل كلية الشريعة أنّ لديه رسالة عليه أن يؤديها، كان ينظر إلى جدران الكلية ويشعر أن قناديل الأماني تنطلق من نفسه إلى السماء سائلة رب العزة أن يحقق أمانيه، وقد ضمت كلية الشريعة أنجماً من العلماء، يسطع نورهم في العالم العربي والإسلامي.

الدكتور مصطفى السباعي ومؤسس الكلية وعميدها.

الأستاذ محمد المبارك أستاذ مادة نظام الإسلام.

الدكتور المؤرخ يوسف العش، أستاذ التاريخ.

الدكتور معروف الدواليبي، الحقوقي الكبير والسياسي اللامع.

الأستاذ مصطفى الزرقا، فقيه الأمة.

الدكتور صبحي الصالح، أستاذ علوم القرآن والحديث.

العالم الرباني المربي عبد الرحمن الباني.

وغيرهم من العلماء الذين أناروا العقول، وأحبتهم النفوس.

تخرج فقيدنا من كلية الشريعة سنة 1963م وحصل على إجازة في الشريعة، وقد نضجت نفسه وتبلورت شخصيته، وتطلّع إلى تحقيق أمانيه، ورسم خطوط أهدافه في الحياة، فهو صاحب رسالة، ورسول دعوة، ينشد العزة للإسلام، ويسعى لدحر أعدائه.

أعماله وأنشطته:

تم تعيينه في وزارة التربية كمدرس التربية الإسلامية سنة 1964م في السويداء، وبقي فيها مدرساً لمدة (4) سنوات، ثم انتقل للعمل في ثانوية جودت الهاشمي بدمشق، ثم انتقل إلى التدريس في مدرسة للبنات في باب الجابية، ثم انتقل إلى العمل في ثانوية الكسوة 1973م، و شعر أن التدريس يبعده عن متابعة عمله في إدارة مكتبة  )دار القلم(  التي أسسها سنة 1967م، قدّم استقالته من التعليم ليتفرّغ لعمله في نشر العلم والثقافة.

وقد قطف فقيدنا في التدريس قلوباً صافية غرس فيها حرارة الإسلام وشموليته وارتسم في وجدانهم أن المستقبل للإسلام، مهما أظلمت الليالي، وزاغ عن العين وضوح الطريق، أحبه تلاميذه لإخلاصه في عمله وعمق ثقافته ووضوح رؤيته.

وكان له نشاط واسع في بلدته  )الكسوة(  فهو رجل دعوة وعمل، يسعى لتبليغ الرسالة التي ملأت قلبه في ) معهد العلوم الشرعية(  وفي ) كلية الشريعة ( فخطب في الجامع الكبير وفي مسجد أبي بكر، وكانت له حلقات علم في مساجد بلدته، تناول فيها السيرة النبوية والفقد الشافعي، وكانت له دروس خاصة للعمال من كتاب ) كتاب حياة الصحابة(  وكانت له دروس خاصة في علوم العربية والتاريخ الإسلامي، كان كالنبع الذي يروي الأرض في كل اتجاه.

دار القلم وأهداف مشاعلها:

من تلاطم المعاناة في أعماق نفسه، وتصادمها مع شرائح المجتمع، أدرك أن الكتاب جيش يقارع زبانية الانحلال وقارعي الإلحاد ومروجي الشعوبية وناعقي الأفكار المستوردة، ترعرعت في نفسه حروف الهداية، وتلاحمت نوراً، لسانه سنان رمح يئد الجاهلية، ارتفعت راية ) دار القلم ( عالية مشرقة في عام 1967م، وبقي شيخنا محمد علي دولة – رحمه الله – مدرساً للتربية الإسلامية، ينتظر حصاد ) دار القلم ( ليستقيل من عمله في وزارة التربية، هاجت سنابل قمحه، فوضعت رزقاً وفيراً ونجاحاً مزهراً، فقدّم استقالته من عمله عام 1974م، ترك رسالة التعليم مع محبته لها، لرسالة أسمى، وهدف أعلى، عام 1974م.

من أهداف عمله:

نشر الفكر الإسلامي المقاوم للتضليل الصليبي والصهيوني.

بناء الشخصية الإسلامية المتوازنة في معركة بناء الذات.

نشر المعرفة والعلوم التي تحتاجها شرائح المجتمع.

تسليط الأضواء على الانحرافات التي يسعى أعداء الإسلام في نشرها في المجتمع الإسلامي.

وقد بلغت منشورات ) دار القلم ( أكثر من ألف عنوان، كانت رماحاً شُرَّعاً ذوداً عن المسلمين وفكرهم ومنهجهم.

الحركية في منهج إدارة دار القلم:

تنقل الأستاذ الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – في المدن السورية، واتصل بكل الفعاليات الثقافية والأدبية ورجال الفكر والقلم وأساتذة الجامعة المبدعين، باحثاً عن إنتاج جيد ينشره، وقد يلجأ إلى إثارة الهمم حتى يشجع الباحثين على الكتابة، ويقدم لهم الإغراءات حتى يحصل على كتب قيمة ليقوم بنشرها.

سافر إلى كل الأقطار العربية وزار أصحاب الأقلام الذين استنارت المكتبات بكتبهم، وتوطدت العلاقات بينه وبين مئات من المبدعين، وامتدت صداقته لتشمل كل كُتّاب الفكر الإسلامي، ونشر إنتاجهم، وارتفعت أمواج الفكر الإسلامي لتخمد فحيح الفساد، وتوضح همجية الضالين.

ارتبط مع أصحاب دور النشر في الوطن العربي بصداقتهم والفوز بمودتهم.

شارك في معارض الكتاب في كل أطراف الوطن العربي، وكان جناح ) دار القلم ( متميزاً، ويتهافت الزائرون لشراء إصدارات دار القلم.

ارتبط مع إدارات النوادي الثقافية والمنتديات الأدبية بصلات المودة والمحبة.

لا يمكن حصر أصدقائه من المؤلفين والمفكرين والكُتّاب والمبدعين في الوطن العربي لكثرتهم.

المؤلف المبدع محمد علي دولة:

لم يكن الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – تاجراً، اتخذ نشر الكتب مهنة له، يجني منها الأرباح ليكون سعيداً في حياته، لقد امتزجت المطالعة مع دمه، ومشت في عروق جسمه، فهو يتنفس السعادة حين يرى عيونه تحتضن الكلمات وتشكل منها فراشات جمال وأجنحة هامسة بالدفء الودود، كان يرى الكتاب صنو الطبيعة الجميلة، الكتاب يسعد العقل، والطبيعة الجميلة تسحر العاطفة، أحبّه طلابه لثقافته وعمق اطلاعه، وأنصت جلساؤه أمام ترياق فكره وحلاوة حديثه، أخذ بألباب أبناء بلدته ) الكسوة( كمتحدث ومرشد في مساجدهم وكخطيب على منابرهم.

تناول فقيدنا في كتبه محورين:

المحور الأول: السيرة النبوية وحياة الصحابة.

المحور الثاني: تاريخ اليهود ومصيرهم منذ النشأة وحتى الآن، وقضية فلسطين.

كتب المحور الأول:

حياة الصحابة ) للكاندهلوي ( اشترك في تحقيقه مع أستاذه الشيخ نايف العباس.

قصص من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

الصحابي ربيعة بن كعب شاب كان همّه الآخرة.

أبو هريرة تلميذ النبوة النجيب والفاتح المجاهد.

أبو موسى الأشعري الرباني العابد.

كتب المحور الثاني:

لتفسدنّ في الأرض مرتين.

كلام في اليهود.

محاربة اللاسامية خطاب مفتوح إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش.

وإن عدتم عدنا.

كما ألَّف كتاباً عن العلَّامة الشيخ ( عبد الرحمن حبنكة ) قصة حياة و مسيرة علم و جهاد ... و بيَّن مواقفه من اليهود و مكائدهم و المستشرقين و فسادهم . 

 

العمل في السعودية:

شاءت إرادة الإله ولظروف قاهرة، ترك فقيدنا دمشق، وسافر إلى السعودية 1983م، حاملاً معه رسالة الكلمة وبريق الحرف وشعاع الكتاب الإسلامي، الهمُّ المعرفي للإنسان المسلم المعاصر راسخ في كيانه، أقبل متعاوناً مع الأستاذ نادر حتاحت، فكانت ) دار المنارة(  ثمرة تعاونهما، وكُتب لهذه الدار النجاح وطبعت كتباً جيدة، أحب الأستاذ الشيخ محمد علي دولة أن يستقل بعمل فأسس ) دار البشير(  ووسع دائرة عمله، حثّ العلماء وطلبة العلم على الكتابة والتأليف، اتصل برجال الفكر من العلماء السوريين المتواجدين في المملكة العربية السعودية، وطلب منهم أن ينشر لهم إبداع نتاجهم، وأنشأ في بيروت ) دار الشامية(  دور نشر ثلاث: دار القلم بدمشق – دار البشير بجدة – الدار الشامية في بيروت، من مهام الدار الشامية الطباعة والتوزيع لإتقان الطباعة وسهولة النشر، الأخوات الثلاث يوجهها فقيدنا محمد علي دولة – رحمه الله – ويعاونه أولاده، عماد الدين في بيروت، وعبد الرحمن في دمشق، وسيد في جدة.

خريطة العمل في نشر الكتب وأهدافها:

راقب الساحة العالمية والأرض العربية وما ينشر فيها من فكر مشوّه للإسلام وخذلان للمسلمين وحشرهم في زوايا التاريخ، وتحريف منابع تراثهم، وإبعاد الأجيال المسلمة عن أصالتها وجذورها، اعتصم فقيدنا بالله، وطلب منه العون في مواجهة الغزو الفكري والغزو الثقافي، بمقدار استطاعته وضعف وسائله.

اعتنى بالتاريخ الإسلامي والسيرة النبوية وحياة الصحابة والسير الذاتية للعلماء والمفكرين من العرب ومن المسلمين، وأصدر مجموعات من السلاسل.

1- سلسلة أعلام المسلمين.

2- سلسلة أعلام ومفكرون معاصرون.

3- سلسلة كتب قيمة.

4- سلسلة أعداء الإسلام.

استطاع فقيدنا بتوفيق من الله أن يقدم للأمة الإسلامية زاداً عظيماً من العلوم والمعارف، وأن يكشف زيف الفكر الضال وأن يظهر فساد رجاله، وأظهر كيد اليهود للمسلمين، ووضح أن قضية فلسطين أمانة في عنق كل مسلم، عاش آلام أمته، واكتوى بلهيبها، وانعكس ذلك في أدبه وسيرته وعمله وحديثه، وسعى لتخفيف آلامها بإحياء أمجاد تاريخها وإظهار فروسية أبطالها.

محمد علي دولة الناشر – طريقة تعامله مع المؤلفين، وأسلوبه في صنع الكتاب:

يشتكي المؤلفون والكُتّاب من أصحاب دور النشر، ويتكلمون عن ماديتهم وسوء تعاملهم، وأن أصحاب دور النشر لا يعطون المؤلفين حقوقهم كاملة، وقد ابتعد كثير من المؤلفين عن طرح مؤلفاتهم.

فقيدنا الناشر، هذّب الإسلام خُلقه، وحَسّن عملهُ، روح الإسلام تتحرك في عمله وسلوكه، توارت شخصية الناشر التاجر، وظهرت شخصية الناشر صاحب رسالة صقلتها مشاعره الإسلامية وأحاسيسه الإيمانية، وبرز كرجل دعوة، فهو يؤدي بعمله واجباً دينياً ويتحرك بأهداف رسالة السماء.

كان أميناً مع المؤلفين يعطيهم حقوقهم قبل أن يطلبوها حفاظاً على كرامتهم، وكرامة العلم الذي يحملونه، كان كريماً مع مؤلفي دار القلم، يهتم بهم، ويولم لهم إذا زاروه، ويرسل إليهم حقوقهم حيثما كانوا، وكان يوصي أبناءه بذلك.

ذكر أحد المؤلفين في عمان.. أنّ أبا سليم – رحمه الله – كان يتعهد أولاد أحد العلماء في عمان بمبلغ جيد مرة كل سنة ولا يظهر هذا العمل لأحد، وكان قد طبع له مؤلفاته.

مطبوعاته تتسم برصانة الموضوع وحسن اختيار العناوين وجمال الإخراج، ورخص الثمن، يطلب من الله الثواب على عمله.

يضع في نشر الكتاب خبرته وتجربته وذوقه وفنه، ويجد القارئ في الكتاب جمال الصف والإخراج، وقد كتب الله له البركة في كتبه وكتب المؤلفين وانتشرت كتب )دار القلم(  وطاب ذكرها، وأصبحت جزءاً من النسيج الثقافي للمسلمين.

محمد علي دولة: الإنسان

النور الإسلامي امتزج مع ذرات روحه، وآهات أنفاسه، منذ طفولته وهو يتلو القرآن عند كُتَّاب بلدته الكسوة الشيخ ) توفيق المغربي(  هذا الشعور نما وترعرع وأزهر وأثمر في سنوات حياته.

فهو الداعية إلى الله على بصيرة، وهو العالم التقي الورع، وهو المؤلف الجاد الملتزم، يقضي وقت فراغه في المطالعة، يسقي أشجار المعرفة في نفسه باستمرار، يقتني الكتب من معارض الكتب التي يحضرها.

هادئ وقور، يُمَتِّع محدثيه بحديثه الجذَّاب العطر مع ابتسامة ناعمة رقيقة، يستشهد بأحاديثه بكتب يأتي بها من مكتبته، شواهده حاضرة في عقله، لا تسمع منه كلمة مسيئة أو نابية في حق من يخالفه بالفكرة والنهج أو السلوك، بل كان يدعو لكل من يختلف معه، ويقول "الله يصلحه – الله يهديه".

رجل مروءة وسخاء وعطاء، هناك أشخاص عملوا معه وتدربوا عنده في ) دار القلم(  ثم تنكروا لفضله، فكان يرد على إساءتهم بالدعاء لهم بالصلاح.

قيل له: بأن أحد الناشرين في بيروت يشتمك، فرد عليهم: هداه الله وأصلحه، علمناه المهنة، ثم سبنا وشتمنا.

أكرمه الله بخصلتين (1) العلم (2) العمل، وكان يسع الجميع بلطفه ورقة طبعه ودماثة خلقه، ووسطية عبادته، تستريح له القلوب في دروسه وفي خطبه، فحديثه ينبع من قلبه.

يحفظ لسانه من الغيبة ويبعد سمعه عنها، زار مرة عالماً كبيراً من علماء مصر، كان يجري في مجلسه ذكرُ الناس بما يخالف الشريعة، يقول فقيدنا: دعوت الله قبل أن أدخل مجلسه، ألا يغتاب أحدٌ في حضوري، ولقد جلست مع العالم أكثر من خمس ساعات، لم يجر ذكر أحدٍ بسوء، بل كان المجلس كله علم وفوائد.

ومن قصص وفاء فقيدنا: أرسل للنشر كتاب ) الفاروق عمر ( لشبلي النعماني، وعندما قيل له: إنَّ الكتاب تجاوزه الزمن، وقد ترجم إلى العربية، وطبع في القاهرة، لماذا التكرار؟ قال: لقد وعدت أبا الحسن الندوي بطبع الكتاب ولا بد أن أفي بوعدي.

ومن قصص ورعه في المعاملة: عُرِضَ عليه كتاب ) فقه المعاملات في الفقه الشافعي(  هذا الكتاب موازٍ للقانون المدني السوري، تأليف الأستاذ ) محمد الحموي(  قال سأطبعه بعد استئذان الورثة لدفع الحقوق لهم.

قيل له: يا أستاذ لقد مضى على وفاة المؤلف أكثر من خمسين عاماً، وبهذا تسقط حقوق التأليف لمرور المدة القانونية.

قال رحمه الله: لا شأن لي بالقانون، أنا لا تسقط عندي الحقوق.

وسيبقى فقيدنا مثالاً للعالم المسلم الذي يتمثل بما يحمله في فكره وقلبه من علم، وقد أحبه عارفوه، وأثنوا عليه، وتحدثوا عنه في مجالسهم.

مرضه ووفاته:

مسيرة طويلة في الكفاح، والحياة سباق، يفوز بها من سعى لترسيخ أعمدة النجاح، والنجاح حصان جامح، وجبل شاهق، صارع فقيدنا أمواج الحياة ليفوز بالنجاح، حقق النجاح بفضل من الله، لكن الزمن نخر جسمه، ففي عام  2002م كان يحضر معرض الكتاب الدولي زائراً، وقد اشتركت ) دار القلم ( بالمعرض ويدير جناحها ابنه عبد الجبار، أُصيب فقيدنا بجلطة، نُقِل إلى المستشفى ووضع تحت العناية المركزة، وحين تحسنت صحته عاد إلى السعودية، وأُدخل المستشفى ليكتمل علاجه، وخرج من المستشفى بصحة جيدة، لكن!  أصابع الزمن عبثت بالجسم المكافح والقلب المدافع، بقيت آثار ذلك المرض تضغط على جسم فقيدنا، وظهرت عليه أمراض أخرى، استعان بالله على أمراضه وتناول عدة أدوية، ولازمه أولاده أو أحفاده لتلبية طلباته في إحضار هذا الكتاب أو ذاك، لم ينقطع عن القراءة والكتابة حتى أواخر أيامه.

اقترب الأجل، وحان اللقاء، وأتى أمر الله، استيقظ فقيدنا قبل الفجر، وسأل زوجته أم سليم – حفظها الله: هل أذَّن الفجر؟ قالت: لم يؤذن، قام من فراشه وتوضأ، وصلى ركعات في جوف الليل، تهجد، وسأل ربه بقلب خاشع ما يتحرك به عقله وقلبه ثم اضطجع على فراشه ينتظر الفجر الصادق، فسبقه الوعد الصادق، فكانت تلك الركعات آخر عهده بالدنيا، ) يا أيتها النفس المطمئنة* إرجعي إلى ربك راضية مرضية* فادخلي في عبادي* وادخلي جنتي) ، ) إن للمتقين مفازاً* حدائق وأعناباً( )أولئك كتبَ في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).

كلمات حزينة وقلوب دامعة:

تناقلت مواقع الاتصال والتواصل الاجتماعي خبر وفاة الكاتب والناشر والداعية محمد علي دولة – رحمه الله – أعداد لا حصر لها تقدم التعزية بعضها لبعض.

أثر ) دار القلم(  في المجتمع الإسلامي كبير وواسع، خمسون سنة وكتب دار القلم تنتشر في الوطن العربي وفي البلاد الإسلامية.

انهمرت برقيات التعازي على صروح المعرفة الثلاثة، دار القلم – الدار الشامية – دار البشير، وتلقى أبناء الفقيد برقيات لا حصر لها، تعبر بحزن وألم عن هذا المصاب الكبير ( لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شئ عنده بقدر.. اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله( .

استعرض بعض البرقيات التي وصلت لأسرة الفقيد:

الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي:

) رحم الله تعالى أخانا الناشر الرصين محمد علي دولة صاحب دار القلم على ما قدمه للمكتبة الإسلامية من كتب تراث أصيلة وفكر إسلامي نافع، أسأل الله أن يجزيه خيراً، ويغفر له ويتقبله في الصالحين( .

الأستاذ عصام العطار:

( رحم الله أخانا الناشر المخلص الأمين البصير محمد علي دولة الذي خدم دينه وأمته وبلاده على الصعيد العلمي والثقافي على امتداد حياته أجلّ الخدمات، وكان مثال الغيرة والأمانة والعمل الدائب والخلق الكريم.

رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته وعوّض المسلمين منه أحسن تعويض، وجعل لأسرته وأهله وإخوانه وأصدقائه من بعده الصبر والأجر، وإنا لله وإنا إليه راجعون )

الأستاذ علي صدر الدين بيانوني:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:

( عظم الله أجرنا وأجركم بوفاة والدكم أخينا الحبيب أبي سليم رحمه الله، فلقد كان أنموذجاً نادراً في سلوكه وتعامله وصدقه ووفائه، ولا أزكيه على الله فهو حسيبه، أسأل الله عزّ وجل أن يتغمد فقيدنا الحبيب بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، مع الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، كما أسأله – سبحانه – أن يلهمكم والأسرة الكريمة الصبر وحسن العزاء)

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:

ينعي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى أهالي الشام والأمة الإسلامية الشيخ والمربي الجليل الداعية الأستاذ صاحب دار القلم بدمشق الذي وافته المنية في مدينة الكسوة قبل فجر يوم الجمعة الموافق 29 يناير 2016م.

أسس الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – دار القلم في أوائل التسعينات من القرن الرابع عشر الهجري، وأصبحت منارة علمية مشعة وعنواناً مضيئاً في عالم النشر الملتزم والطباعة الأنيقة والكتب المختارة النافعة والمؤلفين المشاهير الفضلاء. 

وندعو له بالرحمة والمغفرة ولأهله ومحبيه وتلامذته بالصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الأمين العام رئيس الإتحاد

أ.د. علي القره داغي أ.د. يوسف القرضاوي

رابطة أدباء بلاد الشام:

عظّم الله أجركم، وجعل الحبيب أبا سليم في مستقر رحمة الرحمن الرحيم.. ثواب ما قدَّم لدينه وأمته وللغة والقرآن العظيم من خدمات تفتح له أبواب الجنان بفضل الله ورضوانه، أرجو أن يكون مثواه الفردوس الأعلى.

عمك المفجوع بهذا المصاب

عبد الله الطنطاوي

رابطة العلماء السوريين:

وفاة أخ كبير وناشر متقن وداعية واعٍ الأستاذ محمد علي دولة صاحب دار القلم بدمشق.

تتقدم رابطة العلماء السوريين بعزائها بوفاة العالم المربي الداعية الحكيم والناشر الأصيل  )أبا سليم محمد علي دولة(  الذي وافته المنية بمدينة الكسوة قبل فجر هذا اليوم الجمعة 29/01/2016م – 19/04/1437هـ، توفي رحمه الله عن عمر يناهز 77 عاماً، أمضاها في التعليم والدعوة إلى الله تعالى، ونشر الكتاب الإسلامي، رحمه الله، وغفر له، وجمعنا به في مستقر رحمته ودار كرامته، أسس دار القلم في أوائل التسعينات من القرن الرابع الهجري، وأصبحت منارة علمية مشعة وعنواناً مضيئاً في عالم النشر الملتزم والطباعة الأنيقة والكتب المختارة النافعة، والمؤلفين المشاهير الفضلاء، رحمه الله تعالى وتقبله في عباده الصالحين.

 

كلمة أخيرة:

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له( ، مات الشيخ محمد علي دولة – رحمه الله – أرجو الله أن يستمر عمله، وينال عليه الأجر الوافر، فلقد زرع غراساً باسقة أدعو الله أن تنشر عليه ظلالها وهو في قبره.