محبة الله لك

محبة الله لك

 

محمد محمد الأسطل

إنَّ من أحبه اللهُ أَمَّنَهُ، وعَافَاهُ وحَصَّنَهُ، ثم رزقه الله أُذُنًا لا تسمع إلا حقًا، وعينًا لا تبصر إلا هدىً، ويدًا لا تبطش إلا في خيرٍ، وقدمًا لا تمشي إلا في طاعةٍ، وقوام هذا بأمرين، أداء الفرائض، والتقرب بالنوافل..

فقد أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلّ: "مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ " صحيح البخاري، رقم الحديث: (6502)، (3/247).

رسالة الحديث بلغة ابن القيم:

إن من أحبه الله جعل قلبه كَمِرْآةٍ صافيةٍ، ترى الحقائق وافية، فلا تكاد تخطئ له فراسة؛ ذلك أن الله وهبه نجابة وكياسة، ثم قذف الحق في قلبه، ففاض نورًا على جوارحه، فيكشف بعيني قلبه بحسب ذلك النور، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أصحابه وهم خلفه، وعاين حالهم بمؤتة وهو بمسجده، ورأى قصور الشام وأبواب صنعاء ومدائن كسرى يوم الخندق، وعلى دربه عمر رضي الله عنه الذي هتف بسارية رضي الله عنه خلال معركته مع الفرس قائلًا: يا سارية الجَبل الجبل، فآوى إليه ونصره الله، إلا أن من قسا قلبه، وغلظ طبعه، فهو عن فهم هذا بمعزل! ابن القيم / الروح ص (239)، وكتابه أيضًا: طريق الهجرتين ص (323).

والمقصود أن العبد إذا أحبه الله يسر أمره، وشرح صدره، وسخر الكون له، بل لَكَأَنَّهُ يَأْتَمِرُ بأمره!

وإليك شاهدًا عدلًا يعضد ذلك:

أمر أبو جعفر المنصور سفيان الثوري أن يتولى القضاء فأبى بِشِدَّةٍ، فهدده بالقتل، فقال سفيان: افعلْ ما شئت، فدعا المنصور سَيَّافَهُ فلما شعر سفيان بجدية الأمر قال للخليفة: أنظرني إلى غَدٍ، ثم حمل متاعه ليلًا هاربًا بدينه من أرض الكوفة، فلما طال غيابه أرسل الخليفة في طلبه، فَأُخبِرَ بهروبه، فاشتاط غضبًا، وأعلن في الولايات الإسلامية قاطبة عن جائزة عظيمة لمن أتاه بالثوري حيًا كان أو ميتًا!

أما سفيان فإنه اتجه صوب اليمن، فلما فَنِيَت نفقتُهُ أَجَّرَ نفسه عاملًا في أحد البساتين، فسأله صاحبه: أَرُطَبُ الكُوفةِ أطيبُ أم هذا؟! فقال سفيان: أنا ما ذقت رطبكم، فقال الرجل: سبحان الله.. الغني والفقير بل الكلاب والحمير يأكلون منه! فرد سفيان: لم آخذ إذنًا بالأكل منه، فكيف أتناول حرامًا؟! فقال الرجل: عجبًا لك، وكأنك سفيان الثوري في ورعه!

ثم أخبر الرجلُ صديقًا له بِوَرَع عامله، فلما وَصَفَهُ له قال صديقه: والله إنه سفيان! فأسرعا في أسره فوزًا بجائزة الخليفة، إلا أن سفيان كان قد هرب بمجرد سماعه اسمه، واستقرَّ بأرض اليمن، وقدر الله أن يُتَّهَمَ يومًا في سَرقةٍ لِجَهلِ النَّاس به، فأتوا به الوالي معن بن زائدة فقال له: لم سرقت المتاع؟ فقال: ما سرقت شيئًا، فأمر الوالي أن ينفرد به ليسأله، قال سفيان: فأقبل عليَّ قائلًا: ما اسمك؟ قلت: عبد الله بن عبد الرحمن! قال الوالي: ناشدتك الله أن تذكر لي حقيقة نسبك، قال: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري! قلت: الثوري، قال: أنت بُغْيَة أمير المؤمنين، ومن جُعِلَت فيك الجائزة؟! قلت: أَجَلٌ أجل، فقال: أقم وارحل متى شئت، فو الله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها حراسة لك! أبو نعيم / حلية الأولياء (7/4).

   إلا أن سفيان لم تطب نفسه بالبقاء، فذهب إلى مكة لحلول موسم الحج، واجتمع عليه العلماء ينهلون من علمه، فسمع الخليفة به، فأرسل الخشابين أن يصلبوه؛ حتى يأتي بنفسه ليقتله! فجاء الخشابون وسفيان بصحبة الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، فقيل له: لا تشمت الأعداء بنا، قم واستتر بالكعبة، فتقدم سفيان، وأقسم على ربه ألا يدخل المنصور مكة، فجاء الخبر أنه مات على حدودها قبل دخولها، فأخبر سفيان، فلم يقل شيئًا، ثم أُدْخِلَ المنصورُ جُثَّةً هامدة، وَصَلَّى الناس عليه في الحرم، قال الذهبي: وهذه كرامة ثابتة! الذهبي / سير أعلام النبلاء (7/251).

رسالة الشاهد:

   والرسالة جلية لا تفتقر لمزيد بيان؛ فإن الله عزَّ وجلّ سخر كونه في معونة عبده، ما دام على إيمانه وعهده!

2- السلامة من عوائق الرحيل:

وألمع العوائق: الخوف من فوات الرزق، والخشية من حلول الأجل..

أما الخوف من فوات الرزق، فإن من اعتمد على الله عزَّ وجلّ تجده مطمئنًا مسرورًا، حامدًا شكورًا، لا يخشى فقرًا، أو يخاف ضرًا، بل رسخ بقلبه ما قاله الحسن البصري يقرع به سمع كل خائف على فوات رزقه، ففضحه بقوله:

قَرَأْتُ فِي تَسعِينَ مَوْضِعًا فِي القُرْآَنِ أَنَّ اللهَ قَدَّرَ الأَرْزَاقَ، وَقَرَأْتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ}.

فَشَككنَا فِي قَوْلِ الصَّادِقِ فِي تِسعينَ مَوضِعًا، وَصَدَّقْنَا قَوْلَ الكَاذِبِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ!

وأما الخشية من حلول الأجل، فإنه في عقيدتهم قدرٌ مقدور، وغيبٌ مسطور، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]، فتلقى أحدهم يُعلِنُ عن أي قرار، بجرأة نادرة، وبسالة باهرة!

وقد عالجت سورة العنكبوت هذين السببين، وهي ترغب في الهجرة؛ فإن من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 56، 57]، وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]

فهذا الشيخ أحمد ياسين، وبعد عذابٍ لِبِضْعِ سنين، في سجون من قال الله فيهم {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، يأتيه ضابط الموساد يومًا في زنزانة العذاب فقال: أتيتك بصفقة ثمينة، سنطلق سراحك مقابل أن تسلمنا جثة الجندي الصهيوني المختطف "سعدون" فقال الشيخ -كأنه آمن في بيته، لا يخشى حلول أجلٍ أو طول سجنٍ-: أنا لا أقبل على نفسي أن يفرج عني، في مقابل جثة لا قيمة لها ولا وزن!

وعلى دربه الشيخ نزار ريان، أدخل السجن يومًا، وإزاء التهديد بالقتل الذي يترصده، قال في كلمة مذهلة: أنا الآن جاهزٌ للقاء الله عزَّ وجلّ!

فمن كان هذا حاله، يحمل بين جنبيه عقيدة ورسالة، تجده لا يهتم إلا بأمر الله، فإن تكلم فَعَنِ الله، وإن سَكَتَ فَبِالله، وَإن سار فَلِلَّه، فأولئك لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، بل لهم الأمن وهم مهتدون!.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين