لمن الطاعة أوّلا، للزوج أم للوالدين؟

عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ قال: قالَ رسولُ الله (ص): "لا طَاعَةَ في مَعْصِيَةِ اللهِ، إنَّما الطَّاعَةُ في المَعروفِ". [متّفق عليه، واللفظ لمسلم]

-             عنِ الحسَنِ البصريِّ: "أنَّ زياداً ابنَ أبي سفيان، وكان والياً على العراق مِن قِبَلِ أخيه معاوية - استعمَلَ الحَكَمَ بنَ عَمرٍو وقد ولّاه قيادةَ الجيش هناك -، فلَقِيَه عِمرانُ بنُ حُصَينٍ فقال: أمَا تَذكُرُ أنَّ رسولَ اللهِ (ص) لَمَّا بلَغَه الذي أي عَلِمَ بخبرِ الجنديّ الذي - قال له أميرُه: قَعْ في النَّارِ، فقام ليَقَعَ فيها، فأدرَكَه، فأمسَكَه أي مَنَعَه عندما هَمّ بفِعل ذلك، لأنّه قالها مازحاً -، فقال النَّبيُّ (ص): لو وقَعَ فيها لَدَخَلَ النَّارَ أي جهنّم -، لا طاعةَ لمَخلوقٍ في مَعصيةِ اللهِ؟ قال الحَكَمُ: بَلى! قال: إنَّما أرَدتُ أنْ أُذكِّرَكَ هذا الحَديثَ أي أراد تذكيرَه بأنّه ليس على الرعيّةِ أن تطيعَه أو تطيعَ أميرَه فيما نهى اللهُ عنه ". [صحّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج سِيَر أعلام النبلاء]

تعيدنا المادّة القانونيّة المستخلصة من هذين الحديثين إلى ما يجري على أيدي بعض الأزواج الذين يَسنّون سُنناً، ويشرّعون تشريعاتٍ لا أساس لها في الدين، ولا يقبلها المنطق الإنسانيّ، وهو المنطق الذي يقوم عليه الدين بكلّ أحكامه أصلاً.

إنّهم يحسَبون أنّهم على حقّ، وما هي إلّا التقاليد والأعراف القبَليّةُ المتوارَثة التي طغت وتجذّرت في نفوسهم حتّى حلّت محلّ الشريعة المنزَلة، حالها حال تلك القرى "المسلمة" العجيبة التي مرّ بنا ذكرها، والتي تمنع الرجل من رؤية وجه زوجته حتّى الممات، ولو خلّفت له البنين والبنات والأحفاد!

وقد يفرضون على زوجاتهم ما لم يفرضه الله، بل ربّما تجاوزوا ذلك إلى ما فيه معصيةٌ لله، ومخالفةٌ لآياته وأحكامه البيّنة الواضحة.

وهناك حتّى الآن شريحةٌ كبيرةٌ من المسلمين يفرض فيها الرجل على زوجته استئذانه إذا خرجت من المنزل، استئذاناً لم يطلبه الشرع حتّى من الأطفال، فكيف بالنساء البالغات العاقلات، بل يلاحقها بسَوط هذا العُرف الظالم ولو بلغت من العمر عتيّاً، كما سوف نرى في إجابات بعض من شاركن في استبيان الخلافات الزوجيّة.

وباستثناء حديثين أجمع المحقّقون على ضَعفهما؛ لا نجد في النصّ الدينيّ، قرآناً أو سنّةً، ما يفرض على المرأة استئذان زوجها إذا أرادت الخروج من منزلها، لغرضٍ أو لآخر، إلّا أن يكون ذلك أدباً منها، ومسايرةً وتحبّباً إلى زوجها، أو أن يكون زوجها قد سبق أن أمسك عليها جرماً أخلاقيّاً يخشى أن تعود إليه بمثل ذلك الخروج.

 والأقبح من هذا أن يفرض بعضهم على زوجته الامتناع عن زيارة أهلها، بل ربّما منعها من الاتّصال بهم تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، وكثيراً ما يكون هذا تكبّراً أو تعنّتاً أو مزاجيّةً من الزوج، ولا ذنب للزوجة أو أهلها في ذلك.

فلِمَن الطاعة أوّلاً في النصّ الدينيّ: للزوج، أم للوالدين؟

إنّها مشكلةٌ كثيراً ما تواجه الزوجات وهنّ يحاولن التوفيق بين رضا الزوج، ورضا الوالدين، ورضا الله. ولكنّ الآيات واضحةٌ في أهمّية الإحسان للوالدين وطاعتِهما وتلبية رغباتهما، كما سنفصّل القول حين يأتي الحديث عن البرّ وصلة الأرحام، ولا نجد في كتاب الله ما يسمح بمخالفة الوالدين أو عصيانهما في أيّة حال، إلّا في أمرٍ واحدٍ لا ثانيَ له: أن يطلبا من ولدهما أو ابنتهما الشِّرْك:

-             وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]

بل تشترط الآية، كما نرى، أن يظلّ الإنسان على حسن الصلة بهما في هذه الدنيا حتّى إن كانا مشركَين "وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا". ولا نجد في النصوص القرآنيّة، ولا في النبويّة، ما يدعو الزوجة إلى تقديم طاعة زوجها على طاعة والديها، إلّا حديثاً أو حديثين أجمعوا على ضعفهما أيضاً.

لقد نالت طاعةُ الوالدين في العقيدة الإسلاميّة موقعاً لم ينله غيرها من الطاعات قطّ، فاقترنت مع عبادة الله وتوحيده في أكثر من آية، وفي هذا ما يكفي للدليل على أنّ طاعة أيٍّ من الزوجين للآخر تأتي بعد طاعة الوالدين، لأنّ طاعتهما تلي مباشرةً طاعة الله وعبادتَه وتوحيدَه:

-             وَقَضَى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]

وذلك ما قضى به ربّ العالمين على بني إسرائيل من قبل، فأخذ عليهم ميثاقاً بأن يقترن ركنُ إيمانهم بالله وتوحيدِهم له بطاعة الوالدين وبرّهما:

-              وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83]

وتنطبق هذه الطاعة للأبوين على الزوج بقدر ما تنطبق على الزوجة. إنّه محكومٌ برأي والديه أوّلاً في أمر علاقته مع زوجته، حتّى لو طلبَا أو طلب أحدهما منه أن يطلّقها:

-                  عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ قال: "كانت تحتي امرأةٌ أي زوجتُه -، وكنتُ أحبُّها، وكان عمرُ والدُه - يَكرهُها! فقال لي: طلِّقْها، فأبَيتُ. فأتى عمرُ النبيَّ فذكر له ذلك، فقال النبيُّ (ص): طلِّقْها". [رواه أبو داود، وصحّحه الألباني]

-                  عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ قال: "كانَ رجُلٌ مِنَّا بَرّاً بوالدَيْهِ، فأمَراهُ، أو أمَرهُ أحدُهُما، أنْ يتزوَّجَ فتزوَّج، فوقَعَ بَينَ أُمِّهِ وبَينَ امرأتِهِ شرٌّ، ووافَقَهُ أهلُهُ أي وقفوا إلى جانبِه في الخلاف -، فقالتْ لهُ أُمُّهُ: طلِّقْها وفي روايةٍ لابن ماجه: إنَّ أبي لم يَزَلْ بي حتّى زوَّجني، وإنّه الآنَ يأمرُني بطلاقِها! -. قالَ: فاشتدَّ عليهِ أنْ يُطلِّقَ امرأتَهُ، واشتدَّ عليهِ أنْ يَعُقَّ أُمَّهُ. قالَ أي الراوي -: فرحَلَ إلى أبي الدَّرْداءِ، فقَصَّ عليهِ قِصَّتَهُ، فقالَ: ما كُنتُ آمُرُكَ أنْ تُطلِّقَ امرأتَكَ، ولا أنْ تَعُقَّ أُمَّكَ، ولكِنْ إنْ شِئتَ حدَّثْتُكَ حديثاً سمِعْتُهُ مِنَ النَّبيِّ (ص): "الوالِدُ أوسَطُ أبوابِ الجنَّةِ؛ فحافِظْ إنْ شِئتَ، أو ضَيِّعْ". قالَ: فأنا أُشهِدُكُمْ أنَّها طالقٌ، فرجَعَ وقدْ طلَّقَ امرأتَهُ". [رواه التِّرمِذي وابن ماجه باختلافاتٍ طفيفة، وصحّحه شعيب الأرناؤوط]

طبعاً، هذه الطاعة للأبوين لا تعني أن تتحوّل المسألة إلى تحدٍّ من الزوجة لزوجها بالخروج من غير إذنه، أو حتّى مجرّد إعلامه، أو بتعمّد زيارة أهلها أو الاتّصال بهم لمجرّد تحدّيه. وعندما ينقلب الحوار والتفاهم بين الزوجين إلى مثل هذا النوع من التحدّيات والمناكفات؛ فعلى الحياة الزوجيّة السلام.

نعم، قد يحدث أن يجد الزوج، وفي حالاتٍ خاصّةٍ جدّاً، خطورةً على مستقبل حياته الزوجيّة من بعض تصرّفات والدَي زوجته، أو أحدهما. وكأيّ إشكالٍ شرعيٍّ يواجهنا في حياتنا ولا نجد له جواباً صريحاً في النصّ الدينيّ، لا بدّ للأطراف الثلاثة: الزوج، والزوجة، ووالديها، من دراسة طبيعة الإشكال وظروفه أوّلاً، ليَصدروا في حكمهم، كأيّ أمرٍ من أمور هذه الحياة، عن الشعور بمسؤوليّتهم أمام الله، وأمام مستقبل ابنتهم وأسرتها، وتوخّي الإنصاف والعدالة في أحكامهم، ولو على أنفسهم. فإذا اختلفوا عليه، ولم يصلوا إلى حلّ، فـحينئذٍ يمكن اللجوء إلى القاعدة القرآنيّة: "حَكَمٌ مِن أهلِه وحَكَمٌ مِن أهلِها" للوصول إلى مخرجٍ شرعيٍّ وإنسانيٍّ سليمٍ يرضي الله والحقّ والضمير.

ولا بدّ، مع كلّ هذا، من أن نأخذ في الحسبان أنّ بعض الآباء والأمّهات قد يطلبون من ولدهم الانفصال عن زوجته من غير سببٍ منطقيٍّ أو وجه حقّ. وقد يكون الابن أكثر ثقافةً من الأب، وأكثر تفهّماً وتقبّلاً لأشياء أو تصرّفاتٍ في زوجته قد لا يفهمها، أو يتقبّلها، أو يستسيغها الأب. وهناك من الأمّهات مَن يشعرن بعد زواج ولدهنّ وكأنّ زوجته إنّما هي امرأةٌ غريبةٌ قد "اختطفته" من بين أيديهنّ، فيتولّد لديهنّ عداءٌ أو غيرةٌ أو كراهيةٌ تجاهها تدفعهنّ إلى افتعال المشكلات للزوجين، واختلاق الأسباب الوهميّة لإقناع ولدهنّ بالطلاق. وهذا كلّه من الظلم الواضح للولد وللزوجة وللأولاد، وقد حرّم الله الظلم على نفسه وعلى البشر، أيّاً كان هذا البشر:

-                  عَنْ أَبِي ذَرِّ الغِفاريّ، عَنِ النَّبِيِّ (ص) فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:"يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا". [رواه مسلم]

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين