لماذا يُعرِض الشباب عن العلماء؟



كثيرا ما تشتكي الأوساط الدينية والدعوية في البلاد العربية وبين الأقليات المسلمة من إعراض الشباب عن علماء الدين وعدم الرجوع إليهم في القضايا الشائكة والمشكلات الكبرى التي قد تُعَدّ منعرجا مصيريا لهم وللأمة ، وترى هذه الأوساط أن ذلك من أسباب انتشار الثقافة المغشوشة والفتاوى الشاذة التي تنحرف بالشباب المتديّن وترمي بهم في مسالك العمل على غير بصيرة وعلى رأسها العنف واعتماد المنهج الدموي بدل الدعوي، فيحترفون الهدم بدل البناء وتفريق صفّ المسلمين بدل رصّه، والانسياق غير الواعي خلف المخططات المتربصة بالإسلام وأهله.

وهذه الشكاية لها ما يبرّرها لأنّ الساحة خلت لفتيان حُدثاء الأسنان يأخذون المسلمين – قبل غيرهم – بالريبة ويقتلونهم بالشبهة، يكتفي الواحد منهم – وقد نصّب نفسه أميرا على جماعة أو تقلّد لقب أمير المؤمنين – بحديث نبوي واحد لم تمكّنه مداركه من سبر غوره وفقه مقاصده أو بكلام متشابه منسوب لابن تيمية ليعلن الحرب على العالم كله وعلى التاريخ ومعالمه وعلى كلّ من خالف رأيه من المسلمين .



لكن لماذا يتّبع كثير من الشباب المسلم العربي والأعجمي ومن أصول أوروبية وأمريكية هذا ” القائد ” رغم بضاعته المزجاة ولا يثقون في كبار علماء الأمة والمجامع الفقهية والمراجع الدينية ؟ إنّ الاكتفاء بإدانة الشباب والتشهير بهم – رغم أن صنيعهم فاسد من غير شكّ ويسيء للإسلام من كلّ الجوانب – لا يحلّ المشكلة ، ومناداتهم بالرجوع إلى العلماء لن تجد آذانا صاغية إطلاقا لأنّ لديهم موقفا مبدئيا من الرموز الدينية يتراوح بين التفسيق والتبديع والتضليل والتكفير لأن هؤلاء الشباب – أو قادتهم على الأقلّ – تخرّجوا من مدرسة الرأي الواحد التي لقّنتهم منذ الصغر أن الحق ينحصر في التيار السلفي، وممثله الأقدم شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا عبرة بمذاهب المسلمين من حنفية ومالكية وشافعية وأشعرية ونحوها.

فلمّا تخندق معظم فقهاء هذه المدرسة مع السلطة الحاكمة – وبالتالي مع المشروع الأمريكي الصهيوني – ألحقهم تلاميذهم القدامى بالمغضوب عليهم وصنفوهم في خانة الضالين، فكيف يلتفتون بعد هذا إلى آرائهم؟ وبعد هذه القطيعة مع مراجعهم الأصلية لم يجدوا من يطمئنون إلى علمهم و ورعهم – بحسب المقاييس الصارمة التي وضعوها – فاستقلوا بالفتوى وهم ليسوا أهلا لها فضلّوا وأضلوا.

كلّ هذا صحيح لكنه – مرة أخرى – لا يحلّ المشكلة لأن سؤالا جوهريا يطرح نفسه: من هم العلماء الذين يجب الرجوع إليهم والاقتداء بهم في زماننا هذا ؟

لقد طلّق الشباب المتحمسون شيوخهم الذين درسوا عليهم وقرؤوا كتبهم لما رأوا منهم من انبطاح تامّ أمام الحكام المعرضين عن شرع الله ومن ازدواجية في المواقف العلمية والعملية، فقتال الروس في أفغانستان – مثلا – جهاد في سبيل الله ، أما قتال الأمريكان الذين احتلّوا نفس البلد فإرهاب تجب مواجهته!!! ونصرة فلسطين كانت عند هؤلاء العلماء واجبة أو جائزة إذا أخذت شكل الدعاء، أما الآن فالدعاء على الصهاينة محرّم لأنه يزعج الملوك والرؤساء الذين يدينون بعروشهم لأمريكا حامية الكيان الصهيوني. فلم تعد لهؤلاء الفقهاء مصداقية عند تلامذتهم القدامى، لكنّ هؤلاء تأصّل فيهم التعصّب والإغلاق العقلي وقسوة القلب التي درجوا عليها عند أولئك العلماء فكانت وبالا على الإسلام وعلى الأمة.

وهل ننتظر منهم أن يُقبلوا على شيخ الأزهر – العضو البارز في حزب حسني مبارك – المتحالف مع العسكر وغلاة العلمانيين والكنيسة القبطية ضدّ الاسلاميّين؟ أم أنهم سيصغون إلى تأصيلات المُفتين هنا وهناك الذين هم مجرّد موظفين بسطاء عند الأنظمة الحاكمة يقتصر دورهم على مباركة فسادها وإضفاء الشرعية الدينية على ظلمها للشعوب؟ هل لمفتي مصر من صلاحية سوى إنفاذ أحكام الإعدام ضدّ المظلومين؟ هل يقتدي الشباب المسلم بذلك الفقيه الأزهري الكبير الذي شبّة رأسي انقلاب مصر الدموي بموسى وهارون، وجزم أن الله هو الذي أرسلهما لإنقاذ مصر؟

هل سننسى أن مفتي تونس لم يُعرف له موقف إلا الإفتاء بعدم أداء صلاة الجنازة على محمد البوعزيزي حين أحرق نفسه، لكنه لم ينبس ببنت شفة في حقّ من أحرق البلد كله وبقي يبارك حُكمه إلى النهاية؟ أم أن لمفتي سورية سمعة طيبة وهو أداة طيّعة في يد النظام الطائفي المجرم؟


إن المؤسسة الدينية الرسمية في البلاد العربية ليست لها أدنى مصداقية عند أي ّ طرف، فماذا بقي ؟ أصبح المسلمون ينظرون إلى العلماء المستقلّين عن الحكام والمناهضين لاستبدادهم وظلمهم وفسادهم، وهؤلاء كُثْر، وأغلبهم ينضوي تحت لواء “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الذي جمع الفقهاء والمفكرين والدعاة من العالم الاسلامي كله ومن الأقليات المسلمة في كثير من الدول، المعروفين بالتبحّر في العلوم الدينية وبالاستقلال عن الحكومات، لكنّ المشكلة أن أولئك الشباب المتحمّسين الذين نتحدث عنهم قد أُشربوا على يد مربّيهم بُغضَ هؤلاء العلماء الفحول الشجعان لا لشيء إلا لأن وجودهم يفضح علماء السلطان ولا يُبقي لهم أيّ سمعة حسنة، وقد وصف سليم الهلالي – الرأس السلفي المشهود له بالغلوّ الديني والتعصب الكامل – الاتحاد بأنه جمع “المتردية والنطيحة وما أكل السبع ” !!! فكيف لا يحتار الشباب ؟


الحلّ إذاً لا يكمن في دعوة الشباب بموعظة رقيقة أو بإملاء فوقي إلى الإقبال على العلماء، وإنما يجب حتما البدء بتبصيرهم تبصيرا علميا واقعيا صريحا بخطأ المنهج الذي تربوا عليه والمستند إلى الرأي الواحد والقراءة الحدية الحرفية الجامدة للإسلام ن التي تورث أنواع الشرور، وعلى رأسها العدوانية المتأصّلة في النفوس، ثم وضع معالم واضحة لخطاب إسلامي أصيل وبيان المدارس التربوية والدعوية والسياسية المتّبعة له على هدي قراءة رصينة واعية للكتاب والسنة في إطار التنوّع المؤصّل له شرعا، حتى لا يرتمي الشباب المتديّن تديّنا عاطفيا في أحضان التطرف الذي يبدأ تلقينه مبكّرا باسم السلفية التي تستهوي الأحداث بادعائها امتلاك ناصية الحقيقة ثم تؤلّب تلامذتها ضدّ البشرية كلها لأنها غير مسلمة وضدّ جميع الجماعات العاملة في الحقل الاسلامي لأنها غير سلفية، هذا هو الواقع المرّ، وهذه هي الحقيقة المؤلمة، وكلّ علاج لا ينطلق – في تقديري – من هذا التشخيص لن يؤتي ثماره، وعلى المراجع الإسلامية الوسطية إذًا أن تتخلّى عن التشخيص السطحي والعلاج الوعظي وقُفّازات الحرير، ولتقتحم المعترك بقوّة وشجاعة لإعادة الاعتبار للمرجعية الوسطية التي تستطيع وحدها كسب ثقة الجماهير المؤمنة وعلى رأسها الشباب، لا تخاف في الله أحدا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين