إذا أراد العبد صدارة وظهورًا، وسعى في الناس لأن يكون مشهورًا، فإنه يبقى خفيًا مغمورًا، أما من اجتهد في إخفاء حسناته أو سيئاته، واتخذ كل وسيلة لئلا يراه أَحَد، فإن الناس ستعلم أمره، وكَأَنَّهُ فعله على جبل أُحُد، أو صدح به في المنابر، حتى علا في المآذن والمنائر!
دخل رجلٌ على عثمانَ بنِ عفانَ رضي الله عنه، وكان قد لقي امرأة في طريقه فتأملها، فقال له عثمان رضي الله عنه: يدخل أحدكم وفي عينيه أثرُ الزنا، فَذُهِلَ الرجلُ وقال: أَوَحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ولكنْ قول حق، وفراسة صدق. السبكي / طبقات الشافعية الكبرى (2/327).
صدح عثمانُ بنُ عفانَ رضي الله عنه بهذا القانون الإلهي، ثم بَثَّهُ لكل بَرٍٍّ وفاجر، في هيئة إنذارٍ زاجر؛ فقال:
ما أسر أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله عزَّ وجلّ على صفحات وجهه، وفلتات لسانه!!
وهذا ما عناه سليمان التيمي بقوله: إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ، فيصبح وعليه مذلتُه!!
صاغ أبو الدرداء رضي الله عنه الإنذار العثماني في صورة توجيه ذهبيّ، ونُصْحٍ أَخَوِيّ، فقال:
لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيُلقِي اللهُ له البُغْضَ في قلوب المؤمنين. ابن رجب: جامع العلوم والحكم ص (2).
ذلك أن أَنفُسَ الخلقِ كلَّها بيده، فإذا أحبَّ عبدًا أشاع أمره في أهل السماوات والأرض ليحبوه، وإلا أطبقت القلوب على بُغْضِهِ، فَلَزِمَ الحَذَر.
وقد قال سفيان بن عيينة: لو لم يُنَزِّل الله تعالى علينا إلا قوله {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] لكان قد أعذر! البيهقي /. شعب الإيمان (5/460)، محمد رشيد رضا / تفسير المنار (11/28).
أُخَيَّ المبارك:
إن للأعمال لوائحَ وروائحَ، فمن خان الله عزَّ وجلّ في السر هتك سِرَّه في العلانية، وأبصره أتباع عثمان رضي الله عنه، وزكمت رائحته الإخوان والجيران، أما الذي يَخْفَى فهو الذي لا يقع فقط!!
ومهما يكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ وإنْ خَالها تخفى على الناسِ تُعلَمِ
أما من أصاب حسنة، فاجتهد في إخفائها، فأبتْ سنة الله عزَّ وجلّ إلاّ أن يفوح عبيرها المسك، ويعلو شذاها العنبر، كعبد الله بن غالب الذي لما مات أبى الله إلا أن نعلم سريرته، ففاح المسك من جوانب قبره، فَرُئِيَ في المنام؛ لِيُسْأَلَ عن سبب الرائحة، فكان الجواب: هي رائحة التلاوة والظمأ. يقصد كثرة التلاوة، وصيام النوافل.
وهبني كتمتُ السرَّ، أو قلتُ غيرَه=أَتَخفى على أهلِ القلوبِ السرائرُ
أبى ذاك؛ إنَّ السرَّ في الوجهِ ناطقٌ=وإنَّ ضميرَ القلبِ في العينِ ظاهرُ
ولله در السري السقطي الذي شَقَّ اليقينُ شِغَافَ قلبه بذلك فهتف بك ناصحًا:
" اجتهد في الخمول، فإن أحوالك تشتهر بين أوليائه إذا صح مَقَامك فيها "!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول