كلمة في الإسراء والمعراج

الحمد لله القوي القدير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه ومن آمن به واتبع هداه. وبعد؛ قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير}[الإسراء:1].

 

مضت سنة الله تعالى في رسله، الذين بعثهم بشرائعه الى الأمم للهداية والإسعاد، أن يؤيدهم في دعوى الرسالة، بما يظهره على أيديهم من الأمور الخارقة للعادة، التي يعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها، مع أنها في ذاتها من الأمور الممكنة، وذلك ليذعن الناس لهم، ويؤمنوا برسالاتهم، وتقوم الحجة على المنكرين.

 

فأيَّد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل النار المستعرة برداً وسلاماً عليه: { قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِين (70)} سورة الأنبياء.

 

وأيَّد موسى عليه الصلاة والسلام بتسع آيات؛ منها العصا واليد: { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِين (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِين (33)} سورة الشعراء.

 

وأيَّد عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِين} [المائدة:110].

 

وعلى هذا السنن الإلهي أيَّد الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بمعجزات باهرة، أبلغها حُجة، وأقواها دلالة، وأسطعها نوراً، وأبقاها على الدهر، ذلك القرآن العربي المبين، الذي أنزله هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والذي عجز البشر قاطبة عن أن يأتوا بمثله: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. فهو الدعوة القائمة، والمعجزة الدائمة إلى يوم الدين.

 

ومنها الإسراء والمعراج، وهما رحلتان وقعتا له صلى الله عليه وسلم بمكة ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، بعد المبعث بخمس سنين - على ما اختاره بعض الأئمة الثقات - وورد ذكرهما في القرآن الكريم إجمالاً في سورتي الإسراء والنجم، وتفصيلاً في أحاديث نبوية رواها الخمسة وأربعون صحابيا، منهم عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وصحت روايتها عند طائفة من التابعين، وعند أئمة الحديث والمجتهدين..

 

أسري به صلى الله عليه وسلم يقظة، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، فدخله وصلى فيه ركعتين، ثم عرج به في تلك الليلة إلى السموات، فأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فما زال يسأل ربه التخفيف رأفة بأمته وإشفاقاً عليها، حتى قال الله تعالى في الحديث القدسي: (إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة) في حديث مطوَّل أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

 

ولما أصبح صلى الله عليه وسلم أخبر قريشاً بما رأى وعاين، فمنهم من بادر إلى التصديق، وهم الذين سبقت لهم الحسنى، ومنهم من تعجَّب وأنكر، وارتدَّ أناس من ضعفاء الايمان، وكان فيهم من يعرف صفة بيت المقدس، فاستنعتوه المسجد، فوصفه لهم أدق وصف. فقالوا: أما النعت فقد أصاب، ولم يكفهم ذلك، بل قالوا: أخبرنا عن عيرنا بالشام - وكانت آيبة بمتاجر الى مكة في طريقه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم بعدد جمالها وبأحوالها وصفاتها ويوم قدومها، فكان كما أخبر الله عليه وسلم.

 

ومن هنا تتجلى الحكمة في جعل نهاية الرحلة الأولى - رحلة الإسراء - المسجد الأقصى؛ لأن كثيراً من قريش يعرفونه ويعرفون معالمه، فإذا سألوه عنه وعن نعوته، وهم يعلمون أنه لم يسافر إليه فوصفه إليهم بما يعرفون وصف مشاهدة وعيان، لزمتهم الحجة، وظهر أمر الله وهم كارهون، حتى إذا ما قام البرهان على صدقه في هذه الرحلة، أخبرهم برحلة المعراج، فلم يستطيعوا لها جحداً ولا إنكارا، وعلم أولو الألباب أنهما معجزتان أيده الله بهما في رسالته.

 

والناس إزاء دعوة الرسل والمعجزات أصناف: منهم من يشرح الله صدره للإسلام، بمجرد

سطوع نور النبوة في قلبه، وبلوغ الدعوة إليه، فلا يتوقف إيمانه على معجزة يراها من الرسول. ومنهم من لا يسلس قياده، ولا يطوى عناده، إلا إذا عاين المعجزة، واطمأنَّ إلى أنها من عند الله، وأن الله تعالى ما كان ليؤيد رسوله بها في دعواه الرسالة، لو لم يكن صادقاً فيها؛ فيذعن عن دليل ويصدق عن برهان. وصنف ثالث ختم الله على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا، لا تزيده آيات الصدق، ودلائل النبوة، وأعلام الرسالة، إلا كفراً وخسارة، وتكذيباً وإصراراً.

 

لهؤلاء وأمثالهم نزلت آية الإسراء، لتقريعهم على جحودهم، وبيان أن إنكارهم لهذه المعجزة واستبعادهم وقوعها امتراء في قدرة الله تعالى، بل افتراء عليه، حيث نسبوه للعجز عن شيء ممكن، وقاسوا قدرةَ الخالق على وِزان قدرةِ المخلوق!.

 

وقليل من التأمل في المعجزات الكونية، يُرى أن إعجازها إنما هو بالنسبة للإنسان، الذي خُلق محدود القدرة، محصور القوى؛ أما بالنسبة لله تعالى، فلا معجزة ولا إعجاز، لكمال قدرته ونفوذ حكمه في جميع الممكنات، إيجاداً وإعداما، وتصريفاً وإبداعا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة:106]

 

وإذا كان الإنسان - وهو مخلوق الله - قد وصل بفضل ما وهبه الله من العقل، وآتاه من العلم، إلى ركوب متن الهواء، كما توصل إلى اختراع الأشعة للمادة والحجب والأجسام إلى درجة ما، وفي نطاق معين، فإن الله سبحانه وتعالى - وهو القادر القاهر فوق عباده الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن، وبيده أمر الأجسام والأرواح جميعاً، وبيده مقاليد السموات والأرض لقادر على أن يُسريَ بعبدٍ من عباده من بلد إلى بلد، ويعرج به من أرض إلى سماء، وذلك أهون عليه سبحانه من خلق السموات والأرض، وأيسر من خلق الناس: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[الروم:27].

 

وكم لله في خلقه من عجائب وأسرار، تفرَّد بالقدرة عليها واستأثر دون خلقه بإبداع صنعها وإحكام تدبيرها، لا يتطاول إليها إنسان، مها عظمت قدرته، وسمت مداركه.

 

خلق الله العقل والقوى في الإنسان، وخلق الموت والحياة، وخلق الروح ونفخها في أجنة الأرحام، وخلق النحل والمال والعناكب، وألهمها من أدق الاعمال، ونظم الحياة والدفاع ما يحير الألباب.

 

وخلق السموات والكواكب، وأجرى السيارات منها في أفلاكها، بنظام بديع محكم، على طول الآماد، مع سرعة الحركات وعظم الأجرام.. فهذه الكرة الأرضية تقطع في دورتها حول الشمس، أو الشمس تقطع في دورتها حول الأرض، على خلاف بين علماء الفلك نحو ٢٩.٥ كيلو متراً في الثانية الواحدة.

 

وهذا كوكب المريخ يقطع في دورته حول الشمس ٢٤ كيلو متراً في الثانية الواحدة. أليس الله الذي قدر على كل ذلك - وهو بالنسبة لما وراءه كقطرة من بحر - بقادر على أن ينقل إنساناً من مكة إلى بيت المقدس وبينهما ۱۳۳۲ كيلو متراً في ثلاثة أرباع الدقيقة إذا قيست حركته بحركة الأجرام السماوية، بل في لمح البصر، وعلى أن يعرج به إلى السماء في لمحة الطرف، ويعيده إلى مكانه بمكة، بعد أن يريه من آياته وعجائب مصنوعاته، ما يناسب مقام الحب والاصطفاء؟.

 

إن العقل السليم ليلهم الإنسان أن يد القدرة الإلهية مبسوطة في عالم الممكنات بأسرها، ولا يعجزها شيء، ولا تقف عند الحدود التي تنتهي إليها قدرة الإنسان، بل تتعداها إلى ما لا تحيط به العقول، كما هو مشاهد في كثير من المخلوقات، التي عجزت جبابرة العقول، وعباقرة الأجيال، عن إدراك وقائعها وأسرارها، كالروح والحياة.. أو عن مقاومتها كالموت عند انقضاء الأجل الذي قهر به سبحانه خلقه.

 

وما المعجزات إلا مظاهر لقدرة الخالق وعجز المخلوق، فإذا اتسع أفق الإدراك، ولم تحصره الأهواء لم يخامر النفس شك، في صدق المعجزة والرسول.

 

لذلك جاء في مستهل آية الإسراء تنزيه الله تعالى عن النقص والسوء، ومنه أن ينسب إليه العجز عن الإسراء بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو أهون ما يكون عليه.

 

وكان من بلاغة القرآن هذا التصدير، لتلقي السامعين بادئ الأمر بالدليل على أن هذه هي من عند الله، وأنه الخالق لها، والمبرأ عن العجز عنها، فلا سبيل إلى إنكارها، ولا مجال للشك فيها، أو العجب منها.

 

وكان الإسراء ليلا لأنَّ الليل وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك لخاصتهم، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته في جوف الليل إلا من هو إليه مقرب، وعنده أثير، وهو وقت عبادته صلى الله عليه وسلم..

 

وبعد فقد كانت هذه القصة فارقة بين الحق والباطل، والإيمان والجحود، والتصديق والتكذيب، فثبت بها إيمان المصدقين، وظهر بها جحد أولئك المبطلين المكذبين.

 

فعلى كل مسلم أن يؤمن بالله سبحانه وبما جاء من عند الله، ولا تلعب به وساوس النفوس، ونزغات الشيطان، فقد ينزل الله بعض آياته، فتنة لعباده واختباراً لهم، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا}[الإسراء:60].

 

حلب - يوم الاثنين في ٢٧ من رجب ۱۳۷۱هـ .

اختصرها من مجلة (منبر الإسلام) بتصرف: أحمد عز الدين البيانوني

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين