كلمة الشيخ عبد الله الصبَّاغ في رثاء الشيخ محمد الحامد

مع النبيين والصدَّيقين والملائكة المقربين، وصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم ذي القلب الرحيم، وعلى مَنْ دعا بدعوته إلى يوم الدين.

(أمَّا بعد)

فرِحِمَك اللهُ أخانا الحبيب «أبا محمود»، ورضي عنك، وسلام على روحك العذبة الطاهرة.

سلام على الإسلام بعد محمدٍ= سلام على أيامه النضرات

على الدين والدنيا على العلم والحِجا= على البر والتقوى على الحسنات

لقد كنت أخشى عادي الموت قبله= فأصبحت أخشى أن تطول حياتي(1)

سلام عليك يا شيخ الصدق والبر والمرحمة والوفاء، لقد كنتَ روحًا يسري في كيان هذه الأمة، كنتَ صادق اللهجة، صادق الحديث، لسانُ الحال فيك أبلغُ من لسان المقال، وصوتُ الأفعال منك أعلى من صوت الأقوال.

وكنتَ بارًّا رحيمًا متواضعًا يذوب قلبك حسرة وأسىً لمصارع البؤس والشقاء، بعيدًا عن التجبر والتكبر والتشدق والخُيلاء، كنتَ عبدًا حقًّا من عباد الرحمن، { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63-64].

قد رضِيتَ من العيش بالكفاف فكانت الدنيا في يدك وتحت قدمك، ولم تكن في قلبك، وترفَّعت على أن تأكل الدنيا باسم الدين؛ لتحفظ للعلم جلاله، وللعلماء منزلتهم الرفيعة كما أرادها الله، {قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]، وكأنك كنتَ تتمثل قول القاضي الجرجاني:

ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم=ولو عظَّموه في النفوس لعظَّما

وكنتَ عفَّ القلب واليد واللسان، بريئًا براءة الأطفال، سخِيَّ العَبرة، دائمَ الفِكرة، جياشَ العاطفة، موصولَ الأحزان، وكنت عربيَّ اللسان عبقريَّ البيان، إسلاميَّ العقيدة، إنسانيَّ النزعة، وقَّافًا عند كتاب الله، إذا ذُكِّرتَ به تذكَّرت ووجلت وارتعشت ارتعاشة الخوف والتقوى، ولم تجاوزه إلى ما سواه.

وكنتَ مدرسة وحدك في العلم والتحقيق، تسهر ليلك وتنفق الساعات الطوال في تمحيص الحقائق الدينية؛ نُهوضًا بحق الأمانة، وخوفًا من سياط التعذيب يوم القيامة.

وكنتَ مثلًا فريدًا في الخطابة والوعظ والإرشاد، إذا تسنمت المنابر ابتلت أعوادها، واهتزت ذراها، غامت العيون، وفاضت الشؤون، وطارت القلوب شوقًا إلى الله وفرحًا بلقياه.

وكان مجلسُك يا سيدي مجلسَ ذكر وعلم وحياء، لا تُخدش فيه حُرمة، ولا يُذنُّ فيه بريبة، ما جلست مجلسًا إلا وعلاه نور وبهاء، وخوف من الله وبكاء.

لقد كان حالُ الإسلام والمسلمين شُغلَك الشاغل، وهمَّك المقيم، لقد كنت تتحرق على ما أصاب المسلمين من مصائب ونكبات، كنت تعيش لأمتك جمعاء، تبكي جراحاتها، وتنادي: يا لثاراتها!

ولقد استحوذتْ قضيةُ فلسطين – بلدِ الإسراء والمعراج، أرضِ المقدسات، قلبِ هذه الأمة الراعف النازف – على صفوة خُطبك النارية الجهادية، وجُلِّ أحاديثك.

لقد كنتَ تحمل هموم المسلمين كلها على رأسك، حتى تمكنت العِلة من كبدك، والداء في الجسم غير الداء في الكبد، فسقطتَ إعياء وضعفًا، بعد أن اصطلحت على جسمك السهام والجراحات، وسقطتَ شهيدًا بطلًا في الساحة الكبرى المقدسة، شهيد الحق شهيد الإسلام.

لهْفَ نفسي عليك أيها الشهيد الحبيب! أيُّ خَطْبٍ جلل حلَّ بدارنا، وأيَّة لوعة وحُرقة سكنت حبات قلوبنا، وأحالت ربيع قلوبنا قفرًا موحشًا، وشتاءً قاسيًا؟!

يا ملاذنَا في المُهمَّات، ومفزعَنا في المُلمَّات، ودِرعَنا في الخطوب، يا فقيدَ الإسلام والمسلمين، يا نجمًا هوى، ويا طيفًا تلاشى، ويا أملًا تحطَّم؛ لقد افتقدناك ونحن أحوج ما نكون إليك، ينبوعَ حكمة، وصوتَ هداية، ورباطةَ جأش، لقد أفنيت عمرك في طاعة الله، ودفاعًا عن حرمات الإسلام، وكانت آخر آية لامست روحك الطاهرة، وأهل بيتك عند رأسك يتلون من كتاب الله سورة الرعد: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29].

طوبى لك؛ لقد أعلنتها صريحة: الله ربي. واستقمت عليها منهج حياة، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30-32].

لقد رأيتك في رؤىً كثيرة أثناء مرْضتِك الأخيرة، قصصتُ بعضها على بعض إخواني، وحبستُ الآخر منها في صدري، وكانت آخرَ هذه الرؤى التي رأيتها ولم أبُحْ بها، رأيتك وقد توفَّاك الله، وخرجت المدينة على بكرة أبيها كالأمواج المتلاطمة تودع شيخها وعالِمَها وحبيبَ قلوبها ملتاعة، وقد اغبرَّت الآفاق، وغابت البشاشة، وخيَّم الحزن والوجوم، ووقفتُ أخطب الناس وأتلو عليهم قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].

لن ننقلب على الأعقاب، ولن نضل وقد هدانا الله.

يا شهيد الحق، يا شهيد الإسلام؛ إن اللواء الذي حملته لن يسقط، وإن المِشعل الذي أوقدته من دماء قلبك الزكية لن ينطفئ، سترفعه من بعدِك الأيد الفتية الأمينة، سيحمله من بعدك الرجال والأشبال الذين غزوتَهم بالإسلام، وتعهَّدتَهم بالرِيِّ والسقيا، حتى اشتد ساعدهم وصلب عودهم.

أيها الحبيب؛ نَمْ قريرَ العين راضيًا مرضيًا في جوار ربٍّ كريمٍ، حفيٍّ ودود، طالما أحببت لقاءه وأحبَّ لقاءك، جزاك الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وجمعنا الله بك تحت لواء سيد المرسلين وإمام المتقين، وألحقنا بك في الصالحين غير فاتنين ولا مفتونين، ولا خزايا ولا نادمين، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157]، والسلام عليكم ورحمة الله.

ألقيت بتاريخ: 5 مايو 1969م.

(1) حافظ إبراهيم، من قصيدته: سلامٌ على الإسلام بعد محمدٍ.