كلمات في وداع معلم عظيم الدكتور بكري شيخ أمين

كثيرون هم يأتون إلى هذه الحياة ويغادرونها، فلا تشعر الأرض بنقص منها، ولا تزرف السماء عليهم دموعها. 

لأن وجودهم كان كعدمه، يغادرون دون أن يتركوا أثارة من علم، ينتفع الناس بها، أو عمل صالح تحيى به الأرض، وتتزين له السماء.

يذهبون فلا يشعر بفقدهم أحد، ولا تبك عليهم سماء أو أرض. 

أما أنت أيها العالم الجليل. 

أما أنت أيها الأستاذ الكبير. 

أما أنت المعلم المحب المحبوب.

أما أنت أيها الإنسان العظيم المتواضع. 

أما أنت يا صاحب القلب الكبير. 

أما أنت يا معلمي .

أما أنت يا أستاذ الجيل.

أما أنت أيها الإنسان.

أما أنت أيها الرجل....

أما أنت.

فلقد أدميت برحيلك قلوباً عشقتك، وأثكلت طلاباً أحبوك، وأهلاً افتقدوك 

تركت وراءك أثراً عظيما من العلم، ستظل الأجيال تنهل من بحره الثر وتستظل بفيئه الوارف.

كان من أواخر آثارك، تحقيقك لكتاب (بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها) لابن أبي جمرة الأندلسي 

وكنت قد تشرفت بحضور بعض مجالس قراءته لدى شيخنا الشيخ أحمد مهدي الخضر ـ رحمه الله ـ حيث كنت يا أستاذي أنت زينة هذه المجالس. 

كان آخر لقاء لي معك عام: 2011م، يوم اتممت تحقيقك لهذا الكتاب العظيم وطبعه،

يومها هتفت لي قائلاً: عدنان أنا أريد أن يكون هذا الكتاب بين يدي كل طلاب العلم، ليستفيدوا منه، قلت لك: انا حاضر يا دكتور فماذا تقترح؟ 

قلت لي: سأرسل مئة نسخة لدائرة الأوقاف، وتقوم أنت يا عدنان بالإشراف على توزيعها على المدارس الشرعية وطلاب العلم، باعتبارك المسؤول عن التعليم الشرعي، فقلت: على الرأس والعين يا سيدي، وفي اليوم الثاني شرفتنا بزيارتك في مديرية الأوقاف، وأرسلت نسخ الكتاب وتم توزيعها على المدارس الشرعية وطلاب العلم كما أمرت، وأرجو أن يكون ثواب ذلك في ميزان حسناتك أيها الفقيد الغالي.

أما لقائي الأول بك يا سيدي؛ فكان في أوائل السيتيات من القرن المنصرم كانت مشاهدة عابرة في ساحات المدرسة الخسروية. يومها أشار لي أحد رفاقي هذا هو المدير الجديد؛ الأستاذ بكري شيخ أمين، فرأيتك شاباً ممشوق القامة، جميل السمت والهيئة، نحيل الجسم، بهي الطلعة، جميل الوجه، أنيقاً في ملبسك ومظهرك، تلقى الجميع بابتسامتك العذبة، وبشاشتك المعهودة التي لا تفارق وجهك الجميل.

ثم كان اللقاء الحقيقي معك في قاعات كلية الآداب، مدرساً للأدب والبلاغة والعلوم الإسلامية، ويومها قامت بيني وبينك علاقة معلم ودود محب لطلابه مريد الخير لهم، وطالب معجب بعلم أستاذه وخلقه

في السنة الثانية كنت أستاذنا في مادة الإسلاميات (القرآن الكريم والحديث الشريف)، وكلفتني ـ رحمك الله ـ أن أعدّ بحثاً عن (الأحرف السبعة في القرآن الكريم)، وعندما انتهيت من إعداد البحث، عرضته عليك، فسررت به سروراً كبيراً، وطلبت مني أن ألقيه محاضرة على زملائي، فتحرجت من الأمر، وأنا الطالب الصغير، أن ألقي محاضرة بحضور أستاذ الكبير، فما كان منك إلا أن شجعتني، وقلت لي: يا بني أنت عملت عملاً رائعاً، فقم بإلقائه لتكون قدوة لزملائك، وعندما ألقيت البحث في قاعة المحاضرات، ـ وكانت تضمّ أكثر من مئة وخمسين طالباًـ جلست ـ رحمك الله ـ بين الطلاب، تستمع إليه باهتمام زائد مدة ساعة ونصف تقريباً، وعندما انتهيت، قمت إلى المنصة مصفقاً وقبلـت جبهتي، وأمرت الطلاب أن يشاركوك في التصفيق، ثمّ رحت تثني على جهودي في البحث، وتدعو زملائي الطلاب لبذل الجهد في البحث والدراسة.

ومن يومها قامت بيني وبينك علاقة، أردتها بأخلاقك وكرمك أن تكون علاقة صداقة، وأردتها أنا ـ حياء منك ومعرفة بنفسي ـ علاقة طالب محب لأستاذه، ولكن شاء الله أن تغلب أرادتك إرادتي، فغدونا أصدقاء إلى أن فرقت بيننا ظروف الحياة،

وتكررت لقاءاتنا في مكتبك، وفي مجالس العلم عند شيخنا الأستاذ أحمد مهدي الخضر، وكثرت زياراتي لك في المكتب، لأنهل المزيد من علمك الثر، ولأقف عن قرب على أخلاقك النبيلة، وشيمك الرفيعة، وتواضعك الجم. 

كنت تصر على تحضير القهوة بيدك، وتأبى أن أقوم أنا أو أحد الحضور بتحضيرها، فيتملكني الخجل منك، فأقوم وأقف بجانبك وأبادلك الحديث حتى تنتهي من إعدادها، ثمّ أعود بصحبتك إلى مجلسنا، فأحمل فنجاناً وأقدمه لك، فتأخذه مبتسماً وأنت تقول: طيب يا سيدي هات. 

كنت في زياراتي لك أعرض عليك ما كنت أكتب في الأدب والتاريخ، فتقرؤه باهتمام زائد، ثمّ تبدي لي رأيك، بمحبه وصدق، وتزودني بنصائحك وإرشاداتك المفيدة.

وعندما انتهيت من كتابة الجزء الأول من كتابي (علماء من حلب في القرن الرابع عشر) عرضته عليك، وطلبت منك أن تزينه بمقدمة من يراعك الحكيم، وكنت كريماً، فكتب لي مقدمة، فيها من المديح والثناء ما أراني لا أستحقه، وربما كان دافعك لذلك حبك لي، وتشجيعي على المثابرة، فجزاك الله عني خير ما يجزي أستاذاً عن تلاميذه. 

عرفتك منذ ما بقرب من نصف قرن، وصحبتك تلميذاً ثم صديقاً، ثمّ زميلاً ثم رفيقا في طلب العلم، فلا والله ما تغيرت أخلاقك الكريمة، ولا خبت جذوة حبك للعلم أخذاً وعطاءاً.

رحمك الله يا سيدي

وكرمت حياً 

وسعدة في جنات الخلد ميتاً

بورصة التركية، في الرابع من جمادى الآخرة سنة: أربعين وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق للتاسع من شهر شباط عام: تسعة عشر وألفين للميلاد