كلمات في وداع بقية السلف الصالح نور الدين عتر

فجع العالم الإسلامي صباح اليوم الأربعاء ٦ من صفر ١٤٤٢ بأفول نجم من نجوم الهداية وعلم من أعلام الفقه والرواية شيخنا وسيدنا بقية السلف الصالح المحدث المفسر الفقيه المتفنن الشيخ نور الدين بن محمد بن حسن عتر الحلبي ثم الدمشقي الحنفي الأزهري بعد صراع مع المرض وعمر بلغ ثلاثة وثمانين عاما بالحساب الميلادي قضاه في التعلم والتعليم والإرشاد والتدريس والتأليف.

ولد رحمه الله سنة ١٩٣٧ بحلب ونشأ في أسرة علمية صوفية وبيئة تقية نقية من محتد نقي ونسب عريق فوالده العالم التقي الشيخ الحاج محمد عتر الحسني وجده لأمه العلامة الكبير المحقق المعمر الشيخ نجيب سراج الدين الحسيني فأخذ عن أبيه وحضر في مجالس جده الكبير وانتسب إلى المدرسة الخسروية في مرحلة الإعدادية والثانوية فكان المبرز على زملائه وتخرج فيها عام ١٩٥٤ وأخذ عن جلة من علماء حلب الكبار كالشيخ محمدراغب الطباخ والشيخ محمد سلقيني والشيخ عبدالوهاب سكر والشيخ محمدأسعد العبه جي والشيخ محمدنجيب خياطة والشيخ محمد الملاح والشيخ بكري رجب والشيخ محمدأبو الخير زين العابدين وخاله الذي اختص به وزوجه بنته الشيخ عبد الله سراج الدين رحمهم الله أجمعين فقد كانوا من كبار العلماء الأتقياء.

ثم شد رحله فالتحق بالأزهر وتخرج منه متفوقا وكان مضرب المثل في الجد والتحصيل والاستقامة والصلاح وعين شيخا أو مسؤولا عن رواق الشوام وأخذ الحديث والفقه والأصول واللغة عن علماء فطاحل كالشيخ محمدمحيي الدين عبدالحميد الذي قرأ عليه من كتاب تدريب الراوي وكان مشرفه الأول في رسالة العالمية الدكتوراه والشيخ محمد محمد السماحي صاحب كتاب المنهج الحديث في علوم الحديث وكان مشرفه الثاني في رسالة الدكتوراه والشيخ عبدالوهاب عبد اللطيف والشيخ محمد أبو شهبة والشيخ مصطفى مجاهد والشيخ عبدالوهاب بحيري وغيرهم ممن نهل من علومهم وتربى بأحوالهم، حتى حصل على شهادة الدكتوراه سنة ١٩٦٤ بامتياز وكانت رسالة بديعة في بابها متميزة بدقتها ومضمونها وشكلها أبان فيها الشيخ (طريقة الإمام الترمذي في جامعه مع الموازنة بينه وبين الصحيحين).

عين الشيخ بعد ذلك مدرسا للحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قرابة ثلاث سنين، ثم عين في كلية الشريعة بدمشق عام ١٩٦٧ فكان أحد أركان العلم فيها الذين إذا ذكرت الكلية ذكروا بالإجلال والإكبار وزار بعد ذلك جامعات عديدة وتوجه للتأليف والتحقيق والتدريس فتخرج على يديه المئات وقررت بعض مؤلفاته في عدد من الجامعات.

ومن أهمها وأشهرها: منهج النقد في علوم الحديث، وعلوم القرآن، والحج والعمرة، وإعلام الأنام في شرح بلوغ المرام، ودراسات تطبيقية في الحديث ثلاث أجزاء، والتفسير: آيات الأحكام، والقرآن الكريم والدراسات الأدبية، وآيات الأحكام تفسير واستنباط، وتفسير سورة الفاتحة، وفي ظلال الحديث النبوي، وعلم الحديث والدراسات الأدبية، وأصول الجرح والتعديل وعلم الرجال، والمعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام، وكتب في الجانب الدعوي والفكري: فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة، وماذا عن المرأة، والسنة المطهرة والتحديات، والدعوة والداعية إلى الإسلام، وصفحات من حياة الإمام شيخ الإسلام الشيخ عبدالله سراج الدين، والنفحات العطرية من سيرة خير البرية، وحب الرسول من الإيمان، وغير ذلك من المؤلفات.

واعتنى بتحقيق كتب الحديث فأتحف المكتبة بتحقيقاته الرصينة للكتب التالية: علوم الحديث لابن الصلاح، إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، الرحلة في طلب الحديث، شرح علل الترمذي لابن رجب في مجلدين، المغني في الضعفاء للذهبي، نزهة النظر لابن حجر، هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك لابن جماعة في ثلاث مجلدات.

وصار مرجعا محكما لأكثر من ثلاث عشرة مجلة علمية مستشارا في وضع مناهج علوم الحديث والتفسير موضع ثقة كبار العلماء والمحدثين كشيخنا العلامة محمد عوامة الذي راسلته قبل أكثر من عشرين عاما أسأله فكان من كلامه العاطر وجوابه الفاخر نصحي أن أسأل شيخنا العتر فيما يعرض لي من مشكلات في فنون الحديث.

وتعود صلتي بشيخنا طيب الله ثراه إلى عام ١٩٩٧ فقد لازمت دروسه الأسبوعية في مسجد الرشيد بمنطقة الإذاعة بحلب جوار بيته وكان يشرح لنا المجلد الأول من إعلام الأنام ويعقد دروسا في التفسير فسمعنا منه تفسير الفاتحة وكانت دروسا علمية إيمانية تفيد عقولنا وتنور قلوبنا وتغذي أرواحنا أجلس إلى الشيخ فأتأمل سمته وهديه وانفعالات نفسه وطريقة تناوله لمسائل العلم واختلاف العلماء وإجاباته عن الأسئلة فأجدني بين يدي إمام يجمع الفقه إلى الحديث والعلم إلى التربية فليس همه حشو الأذهان بالمعلومات ولا التباهي بغزارة العلم ولا الطعن والتجريح للاقران بل همه تبليغ الشريعة وحراسة الملة ورد الشبهات وتوجيه العقول لدقائق طرق العلماء في التعامل مع مسائل الخلاف يمازج ذلك إخبات وربانية ودمعة عند ذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سخية وتعظيم للشعائر الإسلامية والآداب المحمدية.

وكان يحثنا على حفظ الحديث ويرغبنا باستظهار (رياض الصالحين) الذي أخذ العناية به من شيخه الشيخ عبدالله سراج الدين، ولما طلبنا منه الإجازة بالرواية حينها اشترط علينا حفظه فشرعت في ذلك وحفظت أحاديث.

وقد كانت محاضراته في تفسير الفاتحة فرصة لتوجيه الرأي العام ومعالجة ما يستجد من النوازل والأحداث بعد التعريج على دقائق التفسير بما يناسب المقام، ففيها سمعت بحلب تلك الأيام شيخا يتكلم عن الجهاد ويحدثنا بكرامات المجاهدين الأفغان في ردهم عدوان روسيا الشيوعية وأذنابها، وفي تلك الدروس كان يشحننا بالهمة والعزة والانتماء ويوجهنا إلى الرد على بعض المتعلمنين البعثيين من مثقفي السلطة الحاكمة فيما يتعلق بالشريعة الإسلامية، وما أزال أذكر تحريضه لنا حتى نكتب ونخطب ردودا على كاتب في جريدة حكومية يسمى برهان البخاري كان يطعن في بعض احاديث الصحيحين ويلمز مما ثبت في صلاة الكسوف والخسوف، وكان ذلك شيئا جديدا غير معتاد من الدعاة والعلماء في أجواء سورية ذات القبضة الأمنية المتوحشة.

وأذكر أن أول زيارة لشيخنا ببيته كانت مع الوالد ومدير إذاعة القرآن الكريم بالكويت أحمد حاجية جلسنا بعد العصر صيفا ببيت الشيخ الرابض على هضبة مرتفعة المطل على مناطق شاسعة من حلب فحدثنا عن طلبه العلم بالأزهر الشريف وشيخه مصطفى مجاهد العلامة الفقيه الصادع بالحق أيام جمال عبدالناصر والمتمسك بالمنهج الأزهري الأصيل الذي واجه الشيخ محمود شلتوت ورد عليه في مسالة الربا وكتب في مجلة إسلامية مقالا عنوانه: شلتوت يرد على شلتوت أورد فيه كلامه المتاخر بتحليل بعض حالات الربا ثم قال: ولكن هذا الكلام باطل فقد قال شلتوت من قبل كذا وكذا وأورد كلامه القديم المبطل لشبهات كلامه الجديد، وكان يحب شيخنا ويحتفي به في بيته ويعتني به عناية الوالد بولده، ولذلك أهدى شيخنا له تحقيقه وتكميله لكتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، ثم شرفنا بزيارة مولانا الإمام الشيخ عبد الله سراج الدين في معيته ورفقته فكانت ساعات مباركات لا تنسى.

وكان شديد الوفاء لأشياخه يذكرهم ويدعو لهم فانيا في محبة خاله الشيخ عبدالله سراج الدين معتنيا بكتبه يقرئها ويوصي بها طلبة العلم وعامة الناس ويقول: إن كتب الشيخ ودروسه للعموم وليست للعوام، وكان رقيق القلب هائما بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك عينيه إذا ذكر بعض أحواله وشمائله.

فلم يكن شيخنا عالما أكاديميا محضا متقوقعا على أبحاثه بل كان عالما مشغولا بهموم أمته يعد نفسه جنديا من جنود الدعوة إلى الله تعالى وكان قريبا من قلوب طلابه يعتني بهم ويسأل عن أحوالهم ويحضر أفراحهم ويستضيفهم ببيته ويهديهم بعض كتبه وربما دس لهم في قلب الكتاب بعض المال.

ولما ثارت بعض المحافظات في سورية وتأخرت مدينة حلب قليلا كان يخطب بالناس في مسجد الشيط يلومهم على القعود ويحثهم على قول الحق ونصرة المظلوم وكان من أول من وقع على بيان علماء حلب في ٧/٨/ ٢٠١١ مع أخيه وصديقه مفتي حلب العلامة التقي الشيخ إبراهيم سلقيني رحمه الله، وهذا نصه:

(الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

انطلاقاً من مسؤوليتنا أمام الله تعالى، ومن الغيرة على وطننا و وحدته وصيانته من كل سوء.

فإن علماء حلب يستنكرون وبشدة ما يحدث على أرض الوطن الغالي من سفك ٍللدماء البريئة، وانتهاك للأعراض الحصينة من أي جهة كانت، ويحملّون القيادة – باعتبارها الطرف الأقوى – النصيب الأكبر من المسؤولية عن ذلك.

وهاهم أولاء يناشدون أولي الأمر – وغيرهم ممن بيدهم الزمام – العمل على إيقاف ذلك فوراً، وإفساح المجال لممارسة حرية التعبير والرأي، ومنع الجهات التي لا تمثل الدولة على اختلاف تسمياتها من التصدي الشرس للمتظاهرين السلميين، والكف عن الاعتقالات التعسفية، وإطلاق سراح معتقلي الرأي كافة، والإسراع بتعديل الدستور – المادة الثامنة بشكل خاص -.

كما أنهم يناشدون سائر فئات الشعب الحرص على وحدة أبناء الوطن الغالي والعمل على تمتينه، والحفاظ على ممتلكات الوطن العامة والخاصة. ونطالب الجميع دولة وشعباً بتعظيم حرمات المساجد وعدم المساس بقدسيتها سائلين المولى عز وجل لبلدنا الغالي الأمن والأمان والاستقرار و الازدهار، ولمن يكيد له الخزي والاندحار.

حلب: 7 رمضان 1432هـ

7 آب 2011 م). وله مواقف أخرى.

واختار البقاء بدمشق بعد ذلك متفرغا للتعليم يسد ثغرته دون أن يمدح السلطة الاسدية الحاكمة بكلمة أو يشرعن إجرامها أو يحضر أي اجتماع تدعو إليه.

وآخر لقاء لي بشيخنا كان بالكويت في سنة ٢٠١٢ إذ حضر مؤتمرا علميا عن الإمام البخاري فقرأت عليه أوائل الكتب التسعة من الأوائل السنبلية فأجازني والحاضرين ووقع لي على صدر نسختي من الكتاب بالإجازة وأفادنا أن مشايخه في إجازة الرواية هم الشيخ عبدالله سراج الدين والشيخ علوي عباس المالكي والشيخ المكي الكتاني والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي والشيخ محمد السماحي والشيخ إبراهيم الختني والشيخ ياسين الفاداني، وليس من بينهم الشيخ راغب الطباخ لأن شيخنا درس عليه بالخسروية وكانت عادة الشيخ راغب أن يجيز الطالب بثبته الأنوار الجلية إذا تخرج فمات قبل أن يتخرج شيخنا فلم تحصل له الإجازة وإن حصل له الأخذ والتلقي.

الكلام عن شيخنا ذو شجون ولو أرخيت لقلمي العنان لطال الكلام.

رحم الله شيخنا رحمة الأبرار وأجزل مثوبته وأعلى في الصالحين درجته ونفعنا بعلومه وبارك في ذريته وطلابه وأحسن عزاءنا وعزاءهم فيه..

فلعل الله يجعل فيهم خير خلف لخير سلف.. ممن يصدق عليهم الحديث الذي كان شيخنا يردده وحفظته من فيه:(لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته) رواه ابن ماجه وأحمد بأسناد صحيح.