كلمات في رثاء العالم الداعية مربي الأجيال الشيخ محمد أمين سراج (8)

كتب الأخ عبد الرحمن الشنقيطي المالكي:

مجلس من مجالس شيخنا العالم المربي محمد أمين سراج:

كان هذا الإمام كالشمس لاسطنبول وكالعافية للناس، وقد شهدت له مجالس خير وعلم أثرت في نفسي أثرا بليغا، ولست هنا في مقام المتحدث عن علم الرجل بقدر ما أنا متحدث عن حسن أخلاقه وطيب معشره، ولقد شهدته مرة قبل صلاة الظهر -وكان ذلك شأنه في أغلب أيامه بذلك الوقت- وقد اجتمع بجماعة من الشيوخ نحو العشرة في مثل سنه من الأئمة المتقاعدين وغيرهم في مؤخرة المسجد، ولا تجد في ذلك المجلس غيرهم (فكنت أجد الفرصة للحديث معه وتدليك رجليه وظهره فكان يسميني الطبيب ويهش لي ويكرمني غاية الاكرام)، فيقرؤون ما شاء الله من تفسير الخازن، ثم يختتمون بالدعاء للبلد وللأمة جمعاء، وينتهي الدرس قبل الظهر بقليل فينصرفون للتنفل قبل الظهر إلى أن تقام الصلاة، ثم يبدأ الشيخ في استقبال الناس، هكذا كل ظهر في الغالب إلا يوم الجمعة ففيه يقصده الناس من أطراف الدنيا فتجد مختلف الجنسيات بباب الشيخ في غرفته بمؤخرة المسجد.

ولقد شهدته يأتيه الرجل مع ابنه الشاب فيسأله عن صغير أمره وعن كبيره، فإن كان غير متزوج حضه على الزواج واقترح له أسماء أبنائه، وغالبا ما يقترح اسم محمد فاتح، زرعا منه لتلك الأسماء النبيلة ذات المغزى العميق في مجتمعه النازع للأسماء القومية العتيقة، كما قد يرشد الخريجين الجدد إلى التواصل مع شخصيات علمية بجامعاتهم ويرسل معهم السلام إليهم ليعتنوا بهم ويستفيدوا من خبراتهم.

ولقد شهدته يأتيه الناس بمشاكلهم في عملهم وحياتهم فيحيلهم إلى من يحلها لهم دون أن يرف له جفن، كل ذلك وهو مبتسم متلطف.

وقد حدثني مرة عن ضرورة العناية بالصبيان ومثل لذلك بقوله: لا أنسى العلامة حسن المشاط أبدا، وأدعو له مع والدي بسبب تشجيعه لي أيام صغري، فقد لقيته وأنا صغير لا يؤبه لي في الأزهر فأجازني وشجعني على تحصيل العلم، فأثر ذلك في نفسي غاية الأثر.

أحسن الله عزاءنا وعزاء المسلمين في مصيبتنا بفقد هذا الطود الشامخ والعلم الباذخ، وإنا بفراقك يا شيخنا لمحزونون.

كتب الأخ الشيخ د. عزالدين كشنيط الجزائري حفظه الله:

أبيات من مسودة قصيدة في رثاء شيخنا العلامة بهي الطلعة محمد أمين سراج رحمه الله تعالى وأعلى مراتبه في الصالحين..

صاحب تحدي أول وفد لتهنئة الشعب الجزائري باستقلاله في ٥جولية ١٩٦٢ عبر سفارتنا في القاهرة أيام الأتاتوركية الموالية لفرنسا.. هكذا حدثني رحمه الله وقد دفع ثمن ذلك غاليا تلك الأيام..

أعرُوجٌ للمعالي أم ســـــــراجٌ ينطفي=ورحيل للعطايا عن زمــــانٍ مُرجفِ

أبدورٌ في سَمَـــانا كلّ يوم تختـــــفي=وحتوف كلّ حين بالبقـــــايا تحتفِي

أترانـا قد غفلنا عن سناهم في الدّجى=فيعيش البدرُ فينا مُــــــدة لم يُعرَفِ

ألنـا في ذاك ذنب أم ترانا نكتــــــفي=بعويل أو بكاء بعد فوتٍ مُقْــــــرِفِ

نتبــــــــــاكى كالثكالى والعوادي بيننا=كصروف الدّهر تُبلِي كلّ طوْدٍ مُشرفِ

ذهبت أيام ليلى ليت شعري مسعفي=وتوارى في الحنايا كلّ حـــسّ مُرْهَفِ

هـدرا أبليت جَـدّي والبـــلايا تزدجي=وتنـــــادي بالمنايا كلّ صَرْحٍ مَعْــرِفي

بحِمانا يَسْرقُ النّسْيـــــانُ منا الصّيرَفي=وَيُكَالُ المَـــــــدْحُ زُورًا للْبَلِيدِ المُترَفِ

رَحَلُــــوا لَا شَيءَ يُبقِيهِمْ كِرَامًا بَيْنَــنَا=بحِمـانا تُحْجَبُ الأقمارُ حتى تنْطفِي.

وكتب الاستاذ الدكتور عبد الحق ميحي الجزائري:

عام رحيل العلماء: ما زالت الأمة الإسلامية تفقد سرجها ونجوم هدايتها العلماء ورثة الأنبياء فكم فقدنا هذه السنة من علماء وعالمات في الشرق والغرب رحمهم الله تعالى.

واليوم أفل نجم من النجوم ويغيب الموت واحدا من أبرز علماء الأمة إنه الشيخ أمين سراج الدين شيخ استنبول ومحدثها وواحد من صناع مرجعيتها العلمية محدث فقيه، مرب له بصماته على الأجيال

أخلاقه لا تبتعد عن أخلاق الربانيين شأنه شأن الكثير من أهل العلم والفضل تواضع وأدب وسعة صدر وحلم، وعفة لسان لا يطعن في معارض

همته العالية في تدريس العلم، حيث فتح بيته لطلاب العلم بين العشاء إلى ساعات متأخرة من الليل تجتمع في حلقته أجيال متواصلة من الكهول والشباب الذين يدرسون ويُذَرّسون في جامعة محمد الفاتح الوقفية، بل جل المسئولين في الجامعة من طلابه كأمثال الدكتور أحمد طوران أرسلان كما أن طلابه من عموم الأراضي التركية وولايات الجمهورية التركية

ما شد انتباهي أن مجموعة من طلابه قد درسوا في الحجاز ومع هذا لم يغيروا مرجعيتهم الفقهية فظلوا أحنافا ولم يصطدموا مع أعراف بلدهم المتماشية مع الشريعة الإسلامية

يغرس الثقة في نفوس الشباب بمنحهم مقاما ومكانا يشعرهم أنهم أرقام مهمة عنده وهو ما يجعلهم يتحملون مسؤولياتهم رغم حداثة سنهم فإذا عَرّف بأحدهم يقول هذا الحافظ نجم الدين من سكان مدينة كذا وكذا، وهذا الحافظ محمد الفاتح من مدينة كذا، ينزل الناس منازلهم ويحسن وفادة الضيوف ويكرم الناس لا يتكبر على أحد أرمقه كيف يعامل الشيخ عبد الرحمن الشنقيطي الموريتاني وكان يومها طالبا في مرحلة الماجستير في جامعة الفاتح الوقفية حيث كان يعامله بمنتهى الرفق والاحترام والتواضع م يجعلهم ينسى أنه في غربة.

رغم تقدم السن بالرجل لكن همته عالية في العناية بالدروس المسجدية في كل صبيحة أحد بين الفجر وإلى وقت الضحى حيث كان يدرس مختلف العلوم

تعرفت على هذا العالم الراسخ سنة 2013 م حيث كانت أول رحلة علمية طويلة إلى تركيا ونزلت في مبنى وقف العلم، حيث كان يخصص جناح للباحثين، والشكر موصول للدكتور أحمد يلدز مدير وقف الدراسات الإسلامية بتركيا فنزلت مدة خمسة عشر يوما في مبنى الوقف مع الاستفادة من كل خدمات هذا الوقف وقد تعرفت في هذا الوقف على شخصيات علمية وطلاب علم من مختلف الدول، وقد أخبرني الشيخ الأستاذ عبد الرحمن الشنقييطي أنه لا بد من زيارة الشيخ أمين سراج آخر تلامذة الشيخ مصطفى صبري، وقد عرفني قبلها على تلاميذ الشيخ من جيل الشباب والكهول والشيوخ في كلية العلوم الإسلامية ولما زرت فضيلة الشيخ أمين سراج الدين وعرف أنني من الجزائر أكرم وفادتي وأحسن ضيافتي وبعد انتهاء الدرس ليلا طلب مني الشيخ كلمة فلبيت طلبه

وكان من ثمار ذلك أن دعيت إلى ألقاء محاضرة في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الفاتح الوقفية وكان عنوانها الشباب المسلم وتحديات الألفية الثالثة، وقد توطدت علاقتي بالشيخ أمين سراج رحمه الله وببعض طلابه فكنت دائم التردد على زيارته كلما زرت تركيا وسمحت الظروف بذلك.

ومن المواقف التي رواها لي الشيخ أنه لما كان طالبا بالأزهر في الخمسينات من القرن الماضي وقد اندلعت الثورة التحريرية المباركة في الجزائر، خرجت مظاهرات مؤيدة للثورة ومنددة بالممارسات الاستعمارية البغيضة، فكان الشيخ أمين سراج مشاركا فيها وقد تناهى إلى مسامع السفارة التركية وهي دولة مشاركة في الحلف الأطلسي استدعاه السفير التركي وعاتبه وربما هدده بقطع منحته.

فكان جواب الشيخ أن القضية قضية إسلامية بامتياز وقضية استعمار وظلم ويجب علينا أن نقف مع المظلوم ومناصرة القضايا الإسلامية

وهذا ما امتاز به الشيخ حيث جمع الله له بين غزارة العلم وعمق الفكر والإحاطة بقضايا الأمة قديما وحديثا.

موقفه من استشهاد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي:

كان يوم الخميس 31 / مارس 2013م هو يوم استشهاد الدكتور أستاذي وشيخي الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وبعد حوالي ثلاثة أيام التقينا في مسجد الفاتح فأبدى الحزن والأسف على مقتل العلامة البوطي وقال لنا بالحرف الواحد: لقد اتصلت بالرجل مرارا وطلبت منه القدوم إلى تركيا ومغادرة سوريا في هذا الوقت العصيب الذي تمر به سوريا والفتنة التي تضرب بعمق هذا البلد المسلم الذي ابتلي بحكام ظلمة يقتلون شعوبهم ويكممون الأفواه، ويصادرون الحريات والويل ثم الويل لكل من ينبس ببنت شفة أو يعترض على ظلمهم وعدوانهم وفسادهم إلا أن الدكتور البوطي رفض رفضا قاطعا المغادرة إلى أن لقي ربه رحمه الله ـ ونحسبه شهيد الاجتهاد

رحم الله الشيخ أمين سراج، وأجزل له المثوبة وجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.