قليل دائم خير من كثير منقطع

 

 

 

المداومة على العمل الصالح ،دون انقطاع حتى الموت، هي وصية الله - عز وجل - لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.:  {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } هذه الآية الكريمة جاءت في آخر سورة الحجر، خاتمة لمجموعة وصايا، أوصى بها الله تعالى نبيه - عليه الصلاة والسلام - واليقين هو الموت كما صح بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم[1] ولهذه الوصية  ، "كان عمله – صلوات الله وسلامه عليه - ديمة "[2]. كما قالت عائشة - رضي الله عنها - والديمة في كلام العرب تطلق على المطر إذا استمر نزوله فترة طويلة[3]أسبوع، أو عدة أيام، أو حتى عدة ساعات متصلة، ولا شك أن الديم من المطر أنفع للعباد، وللشجر، وللأرض وللمياه الجوفية، وأن نفعه أكثر من المطر الذي ينهمر بغزارة لدقائق، ثم ينقطع ، وفى بيان أهمية دوام العمل الصالح القليل عن الكثير المنقطع قال صاحب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى " مَثَلُ العمل الكثير الشاقّ المنقطع مثل المطر الغزير الذي ينزل بكثرة كأفواه القِرَب في يوم واحد، بحيث يهدم البيوت، ويُفسد الزروع، ويَقطع السُّبُل، ويموت كثير من الناس، والبهائم بسيوله، ثم ينقطع في اليوم الثاني، فإنه مضرّة، لا تنتفع منه البلاد، ولا يستفيد منه العباد. ومثل العمل القليل الدائم، كمثل المطر القليل الذي ينزل كل وقت بحسب الحاجة، فيُنبت الزرع، ويُدرّ الضرع، ويملأ الأودية بمياهه، فينتفع به الناس، والبهائم، فإنه نفع محض؛ لنفعه البلاد، وإغاثته العباد[4].

 

وقال الْحَسَنَ البصري - رحمه الله -: «يَا قَوْمُ الْمُدَاوَمَةَ، الْمُدَاوَمَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ»[5] فلم يجعل الله في الآية الكريمة : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } حداً زمانياً، أو مكانياً، أو كمية من العمل، إذا وصل إليها العبد توقف عن العبادة وإنما جعل ذلك حتى الموت. وَقَالَ البصري أيضًا: «إِذَا نَظَرَ إِلَيْكَ الشَّيْطَانُ فَرَآكَ مُدَاوِمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَبَغَاكَ وَبَغَاكَ، فَرَآكَ مُدَاوِمًا مَلَّكَ وَرَفَضَكَ، وَإِذَا كُنْتَ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا طَمِعَ فِيكَ»[6]

 

نقل ابن حجر عن النَّوَوِيِّ – رحمهما الله – قوله " بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَسْتَمِرُّ الطَّاعَةُ بِالذِّكْرِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ الشَّاقِّ حَتَّى يَنْمُوَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أضعافا كَثِيرَة ، وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ :إِنَّمَا أَحَبَّ – الله تعالى - الدَّائِمَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّارِكَ لِلْعَمَلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلذَّمِّ وَلِهَذَا وَرَدَ الْوَعِيدُ فِي حَقِّ مَنْ حَفِظَ آيَةً ثُمَّ نَسِيَهَا وَأَن كَانَ قبل حفظهَا لا يتعين عَلَيْهِ ثَانِيهُمَا أَنَّ مُدَاوِمَ الْخَيْرِ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا مَا كَمَنْ لَازَمَ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ انْقَطَعَ[7] وعلَّق ابن حجر على حديث كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قائلا :  فيه أَنَّ مُدَاوَمَةَ التِّلَاوَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْخَيْرِ[8] ، وجاء فى معنى حُداء الحجيج بــ" لبيْك " فى لسان العرب يُقَال: ألب فلَان على الْأَمر: إِذا لزمَه ودام عَلَيْهِ فَمَعْنَاه: مداومة على إجابتك، ومحافظة على حَقك فَإِذا قَالَ العَبْد لرَبه: لبيْك فَمَعْنَاه: مُلَازمَة لطاعتك، ومحافظة على أَمرك"[9]

 

حديثنا عن النوافل - التي لا تشغل عن الفرائض - ولا يعني هذا أن النوافل أفضل، فالنوافل هي الزيادة على ما يجب، ولا يتم تصوُّر الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؛ ولهذا قيل: لا يستطع الوصول من ضيع الأصول فمن شغله الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[10]

 

ففعل الخير هو الزيادة على العبادة [11]. والْمُرَادَ مِنَ المداومة والتَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ أَنْ تَقَعَ مِمَّنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ لَا مَنْ أَخَلَّ بِهَا  ، فالنَّافِلَةُ لَا تُقَدَّمُ عَلَى الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ نَافِلَةً لِأَنَّهَا تَأْتِي زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ فَمَا لَمْ تُؤَدَّ الْفَرِيضَةُ لَا تَحْصُلُ النَّافِلَةُ وَمَنْ أَدَّى الْفَرْضَ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ النَّفْلَ وَأَدَامَ ذَلِكَ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ إِرَادَةُ التَّقَرُّبِ ، وَأَيْضًا قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ التَّقَرُّبَ يَكُونُ غَالِبًا بِغَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَرِّبِ كَالْهَدِيَّةِ وَالتُّحْفَةِ بِخِلَافِ مَنْ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ. ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ كما قال الصديق[12] فالمداومة مطلوبة في الفرائض أولاً ويشهد لهذا الحديث القدسي الصحيح " مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه ..، "[13] ولعلك تلاحظ هذا الترتيب الفرائض قبل  النوافل. والكمال البشري إنما يدركه أناس يتسمون بعدة صفات وسلوكيات فى مقدمتها أنَّ " ..هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ"[14] وعلى رأس هرمها أنَّ "..هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ"[15]  ولا دوام بلا محافظة ، ولا محافظة بلا دوام والنتيجة النهائية " أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ"[16] وفيما بين هذين الوصفين جاءت أوصاف أخرى بجمل اسمية تُفيد الثبات والدوام

 

"وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ[17]

 

[1] البخاري. الجنائز باب الدخول على الميت بعد الموت إذا ادرج في أكفانه عن أم العلاء - رضي الله عنها

[2] البخاري. الرقاق باب القصد والمداومة على العمل.

[3] فتح الباري 11/305

[4] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/ 370)

[5] الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 7)

[6] الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 7)

[7] فتح الباري لابن حجر (1/ 103)

[8] فتح الباري لابن حجر (9/ 45)

[9] المقتضب (3/ 225)

[10] الحج : 77

[11] الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 85)

[12] وصايا العلماء عند حضور الموت لابن زبر الربعي (ص: 33)

[13] البخاري الرقاق باب التواضع

[14] المعارج : 23

[15] المعارج : 34

[16] المعارج :53

[17] المعارج : 24-33

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين