قصة العبودية والإيمان

حول البيت العتيق تدور حياة المسلم في هذه الدنيا، فهو في صلاته يتجه إليه لأنه القبلة التي اختارها الله لعباده المؤمنين، وقبلة الله هي القبلة التي ليس فوقها شيء، وهي المركز المحوري الذي ترتبط به عقيدة المسلم، وعقيدة المسلم هي محور حياته الذي ينطلق كل شيء منه ويعود إليه. لذلك لا غرابة أن يمتلئ قلب المؤمن إحساساً بمهابة البيت وقداسة مكانته.

وهو يُجِل هذا البيت ويرى في هذا الإجلال سعادة لا حد لها لارتباطه بحقيقة التوحيد أكبر حقائق الإسلام وأولها. وهنا يرجع المؤمن بذاكرته إلى التاريخ البعيد، تاريخ التوحيد في هذه الديار، وتاريخ أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، باني هذا البيت العتيق الحبيب، يرجع بذاكرته ليشهد البيت يوم أسس في مكان قفر، ووادٍ غير ذي زرع، فيرى في ذلك صورة حبيبه كلها جد وجهاد، وحب وحنان، وتضحية وفداء، وانقياد لأمر الله عز وجل.

 يرى صورة المؤمن الصادق في دعواه الباحث عن ضالته، الجاد في الوصول إلى الهداية.. يسعى وراءها في وحشة الصحراء، وظلمة الليل، غير مبالٍ بما قد يصيبه من أذى، أو يصيب أهله وولده الصغير من عناء، ذلك أنه منتدب لما هو أهم من الألم والأذى، مكلف بهداية الناس وقيادتهم نحو ما يسعدهم في دينهم ودنياهم.

لذلك فالحج عرض رائع لقصة الإيمان والحنان، تتمثل فيه العبودية بأتم معانيها، ويتبين فيه الإخلاص والتفاني في سبيل الغاية المثلى بأكمل لوازمها، وتنجو فيها الحياة من الأشكال المتكلّفة، والمظاهر الجوفاء، والتقسيمات الصناعية، وتذوب فيه جميع الفروق الزائفة بين الناس، والتوزيع القائم على أساس اللون والجنس واللغة والبلد مما لا يقره منطق الشريعة والإيمان، والفطرة السليمة، والنفس السوية، والعقل الذكي الحصيف.

وإذا كان ذلك كلُّه خيراً عميماً، وكسباً كبيراً للمؤمن، فإن في الحصيلة النهائية التي ينبغي أن يعود بها من رحلته إلى الحج، ما يؤكّد ذلك الكسب ويعمّقه، ويمنحه الصياغة العملية في واجبه الدنيوي ومسؤوليته الخاصة إزاء دينه، وهو أن يستقيم عليه، ويمنحه وحده كل ولائه، ويجاهد في سبيله فيما بقي من أيامه في رحلة الحياة.

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين