قرآنيون أم ملحدون

إنَّ من شأن الحق في كلّ زمان ومكان أن يكون عرضة لسهام الباطل. وإن دين الله الحق الذي بعث به خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم لم يزل منذ اليوم الأول الذي جهر به النبي الكريم وصدع فيه بأمر الله هدفاً لشياطين الإنس والجنّ يواصلون كيد الليل بمكر النهار لا يفتُرون في سبيل زعزعة إيمان المؤمنين وتشكيكهم به.

ولولا أن الله سبحانه هو الذي تولى حفظ دينه لكان الإسلام اليوم خبراً من الأخبار وأثراً من الآثار. ولكن: {وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ} ٣٠ -  الأنفال.

{وَقَدۡ مَكَرُوا۟ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} ٤٦ -  إبراهيم.

ولمّا لم يُجْد الهجوم المباشر والطعن الصُراح في زعزعة إيمان المؤمنين ولم ينالوا من الإسلام العظيم إلا ما نال ناطح الجبل، تفتقت أذهان الشياطين عن مكيدة خبيثة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب إذ ادعوا لرسوخ إيمانهم وصدق غيرتهم أنهم يعظمون كتاب الله ويُجلّونه ولا يرتضون معه شريكاً في الحكم، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

أما ما يدعوه المسلمون سنّة وحديثاً عن نبيهم فهو أقاويل اخترعوها وأباطيل ابتدعوها لا تقوم بها حجة ولا ينهض بها دليل.. فما على المسلمين إلا التخلي عن هذه الكتب التي أكل عليها الدهر وشرب فما هي إلا أساطير الأولين، وليكونوا مثلهم (قرآنيين) لا يعترفون إلا بالقرآن مصدراً للدين.

فإذا تمّ لهؤلاء الشياطين ما يبتغونه من هدم السنّة انعزل القرآن عن تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسير صحابته والتابعين فانفردوا به يفسرونه على أهواء نفوسهم المريضة.. وصار تفسير القرآن كلأً مباحاً لكلّ من هبّ ودبّ وطار ودرج.. فتحقق بهذا هدم كلا الركنين الركينين من دين الله تعالى.

فانظر كيف تسللوا من النافذة عندما أعياهم الدخول من الباب..

وقد تلقف هذه الدعوة الخبيثة نابتة ممن قلّت علومُهم، وخفّت حُلومُهم، فطاروا بها كلّ مطار عن جهل وحسن نيّة، أو عن علمٍ وسوء طوية، وليس في الآفات كالجهل المُطاع، أو الهوى المتّبع.

وهل هناك هدم للدين أعظم من اطّراح السنة وجلُّ أحكام الشريعة التفصيلية إنما استقت من مناهلها ونهلت من مواردها؟.

فكيف للمسلم أن يعرف صلاته وركعاتها، أو زكاته ونصابها، أو حجه وشعائره، أو صومه وأحكامه، بدون السنة؟. كما إن فيها وفي آثار الصحابة والتابعين التفسير الصحيح للقرآن العظيم؟.

 

ويتلخص الرد على هذه الفرية في الجواب على سؤالين:

أولهما: هل أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بأحكام في الدين غير القرآن، وإذا كان الجواب بنعم فهل يجب على المسلم اتباع هذه الأحكام؟

ثانيهما: هل وصل إلينا من هذه الأحكام ما نطمئن إلى صحة نسبته إليه صلى الله عليه وسلم؟؟

أما الجواب عن السؤال الثاني فلا بد فيه من بسط علم مصطلح الحديث الذي هو مفخرة هذه الأمة بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء ولا تتسع هذه العجالة للإلمام به إلماماً غير مخل، وأنصح هنا بمقدمة ابن الصلاح ليستطيع طالب الحق تصور هذا البحر الخضمّ.

أما الجواب عن السؤال الأول فهو غاية مقالتي هذه.. وسأقتصر فيه على إيراد بعض ما تيسر لي من آيات القرآن الذي يدعي هؤلاء انتسابهم إليه وهو يتبرأ منهم بهذه الآيات البينات:

قال تعالى:

{...وَمَاۤ ءَاتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟...} ٧ - الحشر

{...وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ} ٤٤ النحل

{وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِی ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ وَهُدى وَرَحۡمَة لِّقَوۡم یُؤۡمِنُونَ} ٦٤- النحل

{فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجاً مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیماً} ٦٥ النساء

{...فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ} ٦٣ - النور

وهناك آيات ذكر الله سبحانه فيها أنه أنزل على رسوله أمرين (ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ) هاك بعضها:

{...وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیماً} ١١٣ النساء

{وَٱذۡكُرۡنَ مَا یُتۡلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِنۡ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا} ٣٤ الأحزاب

{...وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ یَعِظُكُم بِهِ...} ٢٣١ البقرة

{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ بَعَثَ فِیهِمۡ رَسُولاً مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلٍ مُّبِینٍ} ١٦٤ آل عمران

قال الشافعي عن هذا الاقتران بين الكتاب والحكمة في مؤلفه العظيم الرسالة ص ٧٨ و٧٩:

("فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول:

الحكمة سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، والله أعلم؛ لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة، وذكر الله منته على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز والله أعلم أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله).

وأخرج ابن المبارك في زيادات الزهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "الكتاب والحكمة" الكتاب والسنة".

وروى الطبري في تفسيره عن قتادة قال: والحكمة أي السنة.

كما إن هناك آيات أخرى أوجبت مع طاعة الله طاعة الرسول.. هاك بعضها:

{مَّن یُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظاً} ٨٠ النساء

{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَمۡرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِیناً} ٣٦ الأحزاب

{وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ یُدۡخِلۡهُ نَارًا خَـٰلِداً فِیهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِینٌ} ١٤ النساء

{إِنَّ ٱلَّذِینَ یُحَاۤدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤئكَ فِی ٱلۡأَذَلِّینَ} ٢٠ المجادلة

{قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ} ٣٢ آل عمران

ولعمري ما معنى عطف طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على طاعة الله؟؟ فإذا كان المقصود اتباع القرآن فقط فلا معنى لهذا العطف ولكان ـ أستغفر الله لغواً من القول تعالى كلام ربنا عن ذلك علواً كبيراً.

والبحث في هذا الموضوع طويل لكنّ فيما ذُكر غُنية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. والحمد لله رب العالمين..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين