قبسة مضيئة في ترجمة العلامة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي

كتب فضيلة العلامة المحدث المحقق الشيخ محمد عوامة في مقدمة تحقيقه لكتاب " المصنف" لابن أبي شيبة الكلمة التالية التي نقتبسها في ترجمة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي الذي سبق للموقع نشر جانب من سيرته ، يجده القارئ الكريم  هـــنا ، وإ لى القارئ الكريم هذه الترجمة الموجزة النافعة :

"ولا بد من قَبْسة مضيئة عن شيخنا الأعظمي، وأعماله العلمية عامة، وعن منهج الشيخ في هذا "المصنَّف"خاصة 1:

ـ أما شيخنا العلامة حبيب الرحمن الأعظمي (1319 ـ 1412) رحمه الله فهو من أفذاذ علماء عصره علماً وسعة اطلاع، وتفنُّناً ومشاركة وطول باع، ورسوخاً وعمقاً ودقة فهم، لكنه لم يكن مبكّراً في ظهوره على الساحة العربية، بل تأخر ـ بالنظر إلى سنة مولده ـ إلى آخر الستينات الهجرية، وبالتحديد إلى عام 1369 حين طبع شيخ شيوخنا الأستاذ الكوثري رحمه الله "منية الألمعي"للإمام قاسم بن قُطْلُوبُغا الذي استدرك فيه على الزيلعي في "نصب الراية"، وكان شيخنا الأعظمي هو الذي عثر على هذا الجزء النفيس، فأرسله إلى الكوثري ليطبعه، ففعل.

وفي أواخر عام 1375 راسل الأعظميُّ الأستاذَ العلامةَ الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله بملاحظاته على مواضع من عمله وخدمته لـ "مسند" الإمام أحمد، فدُهِش بها، ولم يكن من إنصافه وإخلاصه للعلم ـ أثابه الله ـ إلا أنْ نشرها وأشاد بها في آخر الجزء الخامس عشر من "المسند"، وبلغت نحو الأربعين ملاحظة، وافقه الأستاذ أحمد شاكر على جلِّها، وكان صنيع الأستاذ هذا تعريفاً بالأعظمي رفيعاً من مصدر موثوق.

وفي عام 1382 هجري رحل شيخنا الأجل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى إلى الهند وباكستان رحلة علمية مديدة، والتقى فيها بالبقية الباقية من كبار علماء الهند وباكستان، وكان منهم مولانا الأعظمي، رحمهم الله جميعاً.

وعاد شيخنا من رحلته وبادر إلى تحقيق الكتب النادرة، وكان باكورتها "الرفع والتكميل" و"الأجوبة الفاضلة" كلاهما للكنوي رحمه الله، وكرر النقول عن علماء الهند وباكستان، وكان منهم شيخنا الأعظمي، فزادت شهرته في البلاد العربية.

وازدادت وبلغت ذِروتها حين قدم إلى بيروت وأقام فيها نحو ستة أشهر يصحح فيها "مصنف" عبد الرزاق بتحقيقه، وصدر الكتاب عام 1390 في أحد عشر مجلداً كبيراً على وجه طباعي مشرق نَضِر، قلّ مثيله في حينه، وتُلقّي تحقيقه بالقبول.

وزار ثانية بلاد الشام: زار مدينتنا حلب فمكث فيها شهراً كاملاً من 26 من شوال 1398، ثم مكث بعده قُرابة عشرة أيام بدمشق، وسافر منها إلى الحج، وتشرفتُ بملازمته فيهما، وكان له عزمٌ على إخراج "دلائل النبوة" للبيهقي، وصوَّرنا له نسخة المدرسة العثمانية بحلب، لهذا القصد.

ـ ومما أصدره وحقَّقه: "مسند" الحميدي في مجلدين، عام 1381، وقطعة من "سنن" سعيد بن منصور، في مجلدين، عام 1387، و"الزهد" لابن المبارك في مجلد كبير، قدر مجلدين، عام 1386.

سوى ما ألَّفه من أبحاث ورسائل نادرة في مسائل هامة، بلسان علمي متين رصين، لكنها بلغة بلاده: لغة أردو، وقد قام سبطه الأستاذ مسعود أحمد الأعظمي حفظه الله بترجمة جزءين منها، الأول: "نصرة الحديث في الردّ على منكري الحديث" طبعتُه وقدّمتُ له، والحمد لله، والثاني: عدد ركعات صلاة التراويح، وقدمت له أيضاً.

وكان من أهم أعماله، ومن آخرها: عثوره على نسخة خطية من "مسند الحارث بن أبي أسامة" الأصل، في بلاده الهند، فنسخه ليحققه، وحال دون ذلك ـ والله أعلم ـ عمله بـ "مصنف" ابن أبي شيبة، وتوفي رحمه الله تعالى ولم يتسنَّ له ذلك، ويقوم الآن سبطه الأستاذ مسعود أحمد لتحقيق أمنية جدِّه، بتحقيقِ وتخريجِ هذه التحفة النادرة.

ـ أما عمل الشيخ في تحقيقاته، فهو ـ كما يتضح لمن يمعن النظر ـ أنه:

1 ـ يعتمد من النسخ الخطية ما يتيسَّر له منها، سواء ما كان منها بجهده وتحصيله، أم ما يقدَّم إليه من الجهة التي ترغب من الشيخ قيامه بتحقيق الكتاب، ولم يكن الحصول على صور من الكتاب أمراً ميسوراً كما هو الحال في أيامنا.

والكتاب الوحيد مما حقَّقه الشيخ، والذي يمكن أن يقال فيه: إنه أُخرج عن أصول خطية هو كتاب "الزهد" لابن المبارك، لأنه قدِّم إليه أصول معتمدة منه.

2 ـ وعلى هذا: فإن سبب جودة الكتب الأخرى، ورفعتها في التحقيق هو جهد الشيخ الشخصي، وملكته العلمية الواسعة، ودرايته القوية، ودقة نظره الثاقب، وذهنه الذهين الفطن في تقويم النصوص.

وتحقيقات الشيخ الأعظمي تتفق في هذه النتيجة مع تحقيقات الأستاذ الشيخ أحمد شاكر، فيما أخرجه من "المسند" و"سنن" الترمذي من حيث أسبابُ الجودة والرفعة، ولو لم تتوفر لهما الأصول القديمة المعتمدة رحمهما الله تعالى وجزاهما عن السنة الشريفة خير الجزاء.

وقد أعجبني إكبار العلامة الشيخ شعيب الأرنؤوط حفظه الله تعالى لشيخنا الأعظمي في تعليقة كتبها على "الإحسان" 2 في حياة الشيخ بعد أن نقل عن شيخنا تفسيره لكلمة البخاري "فيه نظر"، قال: "هذه فائدة نفيسة، تنبئ عن إمامة هذا الشيخ ـ حفظه الله ونفع به ـ بعلم الجرح والتعديل، ودراية واسعة بقضاياه".

3 ـ ومن منهج الشيخ في التحقيق: عدم التطويل والإكثار من الكلام والتخريج فيما يعلق، على أيّ كتاب كان، إنما كان حرصه ووُكْده نحو إخراجِ أكبرِ قدر ممكن من كتب السنة التراثيَّة الأصيلة، ويرى أن بذل الجهد والوقت والمال في تحقيق هذا المقصد خير للعلم والعلماء من صرفهما في التعليق على الكتاب.

4 ـ إن قلم الشيخ، وأقلام معاصريه من علماء الهند، كأقلام علمائنا السابقين، يُقلّون من الكلام، وإذا كانت الجملة الواحدة تؤدي المطلوب، وتُبلغ القصد، فلا حاجة إلى كتابة جملة ثانية، بل لا حاجة إلى إضافة كلمة إلى الجملة، إنما كان الكلام الوجيز شعارَهم ودثارَهم.

ولو كان الشيخ يعطي لقلمه الحرية في الكتابة، ويطاوعه في البيان والسلاسة، لزاد ذلك في حجم كتبه كثيراً، لكنه رحمه الله كان يسير على ما يعبِّر عن (منهج علمي) و(خُلُق علمي).

ولقد كان الشيخ ـ جبر الله مصاب المسلمين بفقده ـ على قَدَم عالية بالعربية وعلومها وآدابها، حتى لقد أخبرني أنه درَّس ديوان المتنبي عدة مرات3، وما أدراك ما ديوان المتنبي! فأهل هذا الفنِّ هم الذين يدركون سموَّ صاحب هذا المقام.

5 ـ وكان يُعنى بتخريج الأحاديث المرفوعة، وكأنه ـ أحياناً ـ يخرّج من حافظته، ومن الميسور له، ذلك أني رأيته يخرِّج أحياناً نادرة على وجهٍ غيرُه أصوب منه وأولى.

6 ـ كما كان يُعنى بتخريج الموقوفات على النهج نفسه.

7 ـ أما إثبات مغايرات النسخ: فكذلك كان ينبِّه إلى المهم هنا، ويعتمد منها المعتمَد، وإلا فإنه يصوِّب من عنده بجهده وباجتهاده ما يراه، وفي كثير من هذه المواقف تتجلى مزيَّة تحقيق الشيخ.

وبعد هذا، فمن الغَمْط لحقّ الشيخ، ومن الجَوْر في المقايسة: نصب موازنة بين عمله وعمل (الدكاترة) المعاصرين! والنتيجة: خطأ واحد من بين المئات.

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 27/7/2019

ـــــــــــــــ

1ـ كتب الأخ الأستاذ الشيخ مسعود أحمد الأعظمي ـ وهو سبط شيخنا ـ مجلداً كبيراً في ترجمة الشيخ، جاء في نحو 700 صفحة، بلغة الأردو، سماه :"حياة أبي المآثر"(عوامة).وقد اقتصرنا على ترجمته فحسب دون الكلام عن المصنف والقسم الذي حققه ومنهجه فيه

2 ـ 4: 392 (1526).

3 ـ وأظنه قال لي: ثلاث مرات، كما أخبرني أنه درَّس "الهداية" للمرغيناني عشرين سنة