في وداع العالم المربي الشيخ عدنان السقا

كنت طفلا غض الإهاب... أحضر خطب يوم الجمعة في مسجد "الهدى" بمدينة جدة.... مع والدي وشقيقي الصغير.... في ثمانينات القرن المنصرم... كان صوت الخطيب يجمع إلى الرقة والحنان.... شيئا بديعا من الفصاحة والبيان.... فلا تملك إلا أن تصغي إليه... وأنت معجب... لا تدري تشدك تلك الطلاوة... والعذوبة في صوته... أم تجذبك تلك الفصاحة في فكره... حتى إذا قامت الصلاة.... وتلا القرآن.... ساد صمت عجيب... وأرهفت الآذان إلى هذا الصوت الرخيم... وأنصتت بخشوع وإذعان عظيم... وسكنت الجوارح عن العبث والحركات... بل إنك لتخال الأفئدة سكتت عن الضرب والخفقات.... وكم بكى في صلوات التراويح.... فتعالت وراءه الزفرات.... وتصاعدت الصدور والشهقات.... حتى هذا الشاب الجويهل... كثير الأخطاء والزلات... الذي لطالما أخذت بتلابيبه النزوات.... وراحت به النزعات... حتى هذا الشاب... كانت تتساقط عبراته مع بكاء الإمام.... وكم لمثل هذه المواقف من أكبر التأثير في قلوب أمثالي من الضعفاء... تأثير لا يمكن له أن يمحى... أو يتلاشى.... مهما حييت....

سكت اليوم هذا الصوت العذب... فقد انتقاه ربه إلى جواره... بعد ثمانين من الأعوام.... ملأ الدنيا فيها بالعلم والدعوة والإرشاد.... وبناها على المحبة وجمع كلمة المسلمين.... سكت صوت الشيخ عدنان السقا... أحد شيوخ عصرنا الكبار.... رحمه الله رحمة واسعة... وجزاه عنا وعن سائر المسلمين أحسن الجزاء.

ولد الشيخ عدنان السقا في مدينة حمص لوالدين صالحين من آل السقا عام 1942م، وأمه دمشقية إلا أنها ابنة عم والده. نشأ بحمص في بيئة دينية محافظة، وكان أول من تأثر بهم في طفولته من المشايخ هو العالم الكبير الشيخ عبد الجليل مراد الذي كان إماما للمسجد المجاور لمنزلهم. درس الابتدائية بالهاشمية ثم في مدرسة أبي العلاء المعري، ثم التحق بالإعدادية الشرعية -بتوجيه من والده- بالطابق الثاني من مسجد الدالاتي، فتلقى فيها على كبار علماء حمص، وعلى رأسهم مديرها مفتي حمص العلامة السيد طيب الأتاسي. رغب فيما بعد بالثانوية العامة فانتقل إلى مدرسة عبد الحميد الزهراوي، ودرس على عدد من أساتذتها القديرين، وخاصة الأستاذ نور الدين شمسي باشا نجل مفتي الحنابلة بحمص الشيخ العلامة مؤيد شمسي باشا، الذي كان مدرس العربية، كما أنه كان يحضر عليه يوم السبت في منزله دروسا في تفسير المفصّل، فتأثر بأسلوبه الجميل وشرحه الرائق لمعاني الكلمات وأخلاقه السامية.

ومن أساتذته في المدرسة أستاذ التاريخ محمود الطرشة، الذي كان لا يألو جهدا في تصحيح ما علق بأذهان الطلاب من دسائس على كتب التاريخ بيد المشتشرقين، والدكتور سعيد رمضان البوطي الذي كان قد نقل إلى مدرستهم من دمشق، وسواهم.

وفي أول شبابه لازم الشيخ عبد الله الجندلي، الذي كان يكبره بسنوات قليلة، وكان من الدعاة الشباب في حمص وأريافها، ودرس عليه بعد صلاة العشاء في الجامع الكبير كتاب "شرح نظم عقيدة أهل السنة" للشيخ محمد الهاشمي التلمساني، كما درس كتاب "مراقي الفلاح" على الشيخ راتب الحاكمي، والشيخ سعيد الكحيل بين المغرب والعشاء، وحضر دروسا على الشيخ عبد القادر عيسى الحلبي عند زيارته لحمص، وكان من الذين دفعوه للدراسة في كلية الشريعة بدمشق. 

وفي 1959م زار في دمشق السيد محمد بن أحمد الهاشمي الحسني التلمساني المالكي الجزائري (1298-1381هـ=1880-1961م) واستفاد منه في منزله. وفي حمص أيضا تلقى على الشيخ محمود جنيد، ومقرئ حمص العلامة الكبير عبد العزيز عيون السود. تخرج الشيخ السقا من الفرع العلمي للثانوية العامة بحمص، فانتمى لكلية الشريعة بجامعة دمشق ودرس على عدد من أكابر مشايخها، فأخذ الفقه عن العلامة الفقيه عبد الفتاح أبو غدة وكانوا يقرؤون "تحفة الفقهاء" للسمرقندي، ومادة "حاضر العالم الإسلامي" على الدكتور عمر الحكيم الحمصي ثم الدمشقي، والحديث على الشيخ المنتصر الكتاني، والتفسير على الدكتور أمين المصري، وفقه السيرة النبوية على الدكتور مصطفى السباعي الحمصي. 

وفي دمشق حضر حلقات العلامة الفقيه سعيد البرهاني -إمام جامع التوبة بحي العمارة- بعد صلوات الفجر وبين المغرب والعشاء، وحضر بعض الدروس كذلك على الشيخ حسن حبنكة.

تخرج الشيخ عدنان من كلية الشريعة عام 1966م. ويجدر بالذكر أنه بعد عقود حصل كذلك على الماجستير في الدراسات الإسلامية من جامعة بلاهور بالبنجاب في الباكستان عام 1995م. 

كان أول عهده بالخطابة في مسجد العنابة بحمص أثناء دراسته في الكلية الشرعية، مقاسمة مع خطيبه الشيخ عبد الكريم أتماز السباعي، الذي كان قد طعن في السن، فأعطاه نصف راتبه، يستعين به على مصاريف الدراسة. ثم نقل خطيبا إلى مسجد الخيرات خلفا للشيخ سعيد الكحيل الذي نُقل للحسكة، ثم أقام دروسا في مسجد الباشات، ثم في مسجد الإمام، ثم بمسجد مصطفى باشا الحسيني، كما ألقى دروسا على الشباب من كتاب "شهداء الإسلام في عهد النبوة" لعلي سامي النشار في جامع العالي بدمشق، حتى ازدحم عليه الطلاب، فطُلِبَ منه أن يترك المسجد وقد ازدادت عليه العيون. أسس بحمص في عام 1963م مع إخوانه دارا للدعوة والإرشاد والتربية الإسلامية وجهت للشباب، فسموها "دار الفقراء"، مستقين اسمها من قوله تعالى: "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله" وأقاموا فيها دروسا علمية، وكان لها أثر على الشباب القادمين من ريف حمص وقراها، وقد استمر العمل الدعوي فيها حتى عام 1980م. كما اهتم بتوجيه الفتيات، فأقام لهن دروسا في مسجد سيدنا عبد الله بن مسعود، وكانت الدروس الموجهة للفتيات في حمص قليلة.

أسس كذلك "دار القرآن الكريم" على طريق حماة خصصت لطلاب الإعدادية والثانوية كانت مكانا دعويا وتربويا حتى أغلقت عام 1980م. 

هاجر الشيخ بعدها إلى السعودية عام 1980م، خارجا بدينه، بسبب التضييق على العلماء، فدرّس في الابتدائية في حوطة بني تميم بمنطقة الرياض، كما ألقى دروسا على المدرسين والمدراء. 

انتقل بعدها إلى مدينة جدة فاستلم الخطابة والتدريس والإمامة في مسجد الهدى في حي الأندلس سنوات عديدة، واجتمع عليه أغلب السوريين المقيمين في جدة، وكانت خطبه يوم الجمعة ذات تأثير كبير على الناس حتى كان المسجد يزدحم بالحاضرين، فيصلون في أروقته الخارجية، كما كان لصوت تلاوته الجميل للقرآن أثر عميق في القلوب، خاصة في صلوات التراويح لما كان يبكي متأثرا بالقرآن فتتعالى أصوات الصدور والشهقات وراءه، وكم كان هذا الجو مؤثرا في أمثالي لما كانت شابا صغير السن. كما أن الشيخ درس العلوم الإسلامية في المدارس في هذه المرحلة. 

عاد السقا إلى حمص عام 1995م فاستلم الخطابة في مسجد قباء عام 2000م، والتدريس في معهد الفتح الإسلامي بدمشق مدة عشر سنوات، وعين عضوا في إدارة جمعية العلماء، حتى خرج من سورية بقيام الثورة السورية عام 2011م. رحل إلى عدة بلدان لأسباب دعوية منها الكويت والمغرب واندونيسيا والباكستان وتركية وكندا والولايات المتحدة الأميركية. 

توفي رحمه الله اليوم.... متغربا عن مدينته حمص في إسطنبول... في 25 جمادى الأولى 1442هـ (9 كانون الثاني 2021م). رحمه الله رحمة واسعة... وهنيئا له هذه الحياة الزاخرة التي ملأها بالخير والعمل الصالح، والتوجيهات التربوية، واستنهاض الهمم.... فرزء حمص.... بل مصيبة العالم الإسلامي به.... كبيران جدا....