في وداع الشيخِ سعيد الطنطاوي .. رحمه الله

قبل عشرين عاماً أو تزيد ونحن منصرفون من تشييعِ جنازةِ الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقبرة العدل حدثني أحد الرفاق عن أخٍ للمتوفى يسكنُ مكّة واسمه سعيد وألحّ علي أن ألتقيه ..

لم أكن أعرف عن الأخ/ الشيخ سعيد غيرَ اسمه والسطورَ التي حكاها عنه أخوه الكبيرُ في ذكرياته ..

ومن يومها عقدتُ العزم أن أزوره .. وهكذا كان .. ثمّ امتدت تلك الزياراتُ زمانا طويلاً وتنوعت وكان في وصلِها من وحي الذكرياتِ وشيٌ لا يتكرّر و جمالٌ لا يغيب ..

أدقُّ جرسَ العمارة وتجيبني امرأة بلهجةٍ مكاوية غاضبة ( ميين )

- الشيخ سعيد أريد الشيخ سعيد

- مين الشيخ سعيد ؟

- الشيخ الكبير الذي يسكن عمارتكم !

- أيوووه هدا في الدور الثاني

وعاوز منّو إيه ؟

وقبل أن تنتظر إجابتي أكون قد سبقتُ للجرس الآخر أرنّ عليه فيجيبني صوته الوقور من ؟

مرحبا شيخنا السلام عليكم

طالب من الرياض وأردت السلام عليك لو كان الوقت مناسبا ..

يعالج جهاز فتح الباب من عنده ويكرر عليّ السؤال : فتَح ؟ فتَح ؟ فتَح ؟ وأكرّر عليه الجواب نعم نعم نعم يا شيخنا .. ويبقى صوت جهاز فتح الباب بوشوشتهِ متصلاً يعزف سمفونية ترحيب بالغٍ وكرمٍ كبير .. عمارةٌ قديمة في حي العزيزية من ثلاثة أدوار ولها ساحة صغيرة على طرفها أشجار وفي الوسط بوابة تتقدمها درجات تصعد بك إلى مدخل العمارة .. ترقى في الدرجات إلى الطابق الثاني لتجد بابين متقابلين باب شيخنا سعيد الثاني منهما إلى اليسار ..

تطرق الباب بتؤدة بالغة تخاف معها أن تقع مرةً أخرى بيدِ السيدة سالفة الذكر وترى منها ما لا يسر غير أن الباب يُفتح ويُطلّ عليكَ شيخٌ ثمانيني وقور يعيش في هذا المكان لوحده .. له لحيةٌ كثةٌ وحواجب بيض .. قد اعتمر طاقيةً بيضاء ولبس ثوبا بلونِ السماء .. نحيل الجسم رغم استقامة كتفيه يضع على عينيه نظارات واسعة تستطيع من خلالها أن تميّز زرقة عينيه ويظل فكرك لبرهةٍ أمامه يموجُ في بحرٍ من الدهشةِ والجلال .. يقف أمامك مباشرة في فرجة الباب المفتوحة وكأنه يحمي تفاصيلَ بيته أن تتلصّص عليها عيونك ويلتزم صمتاً عجيبا مع إطراقٍ يخالسُك فيه النظر .. تمدّ يدك لمصافحته ويمد يده بعدك بعدة ثوان .. وتريد أن تقبّل رأسه فيزأر فجأةً كالأسد : رأسي ماذا تريد برأسي !! ماذا صنع لك رأسي !! تضطر للاعتذار وتؤكد أن له مقاما كبيراً وأن من عادتكم تقبيل رأس الكبير وأنّ وأنّ .. ولا تزالان على الباب .. يطمئنّ لأمرٍ ما في أغلب الظن قبل أن يتنحى عن طريقك آذناً لك بالدخول إلى مقدّمة البيت وهو يردّد في صوتٍ ضعيف متكرر : أهلا ومرحبا أهلا ومرحبا أهلا ومرحبا .. على يمينك مجلس أرضي ليس فيه شيءٌ من الدنيا غير مكتبةٍ صغيرة جدا في زاويته وطاولة عليها ترمس ماء قديم وإلى جواره أوراق مختلفة .. وعلى رأسك مروحة معلقة في السقف صوتها أكثر حزناً من معزوفة ناي قديم تحاول فقط أن تدور ببعض الهواء المتاح في هذا المجلس وتطرد حالة الصمتِ والسكون ..

تسمع صوت إغلاق باب الشقة من خلفك ويأتي الشيخُ ليقف أولا عند الباب كأنما يستذكر شيئاً ثم يتجه لك مباشرة فيقيمك من مجلسك ويجلسك في مكانٍ آخر مؤكداً لك أنك لست "امبراطور الصين" لتجلسَ حيث أردت ..

يحضر لك الماء وأحياناً يعرض عليك القيمق ويسألك تعرفُ القيمق ؟ وحين لا تجيب ويذهب فكرك ليفتش في ثمار الشام كلها يفاجئك بآيسكريم مثلج يناولك إياه مناولةً وربما رماه إليك وطلب منك أن تتلقّفه .. ومعه يحدثك عن الكلماتِ العربية المأخوذة من التركية وعن تاريخ القيمق الحلبي .. أو ربما أحضر لك من فاكهة الصيف : الموزَ أو المشمش وغالبا ما تجدها عنده .. وحصل مرةً أن أحضر لي موزاً وكان أسودَ فخشي ألا أستسيغه فمضى يشرح لي أنه أسودُ من الظاهر فقط ولكنّه - كما يقول - أبيض القلب ثم بدأ يعد لي من كان من السلف أسودَ يذكر كلّ واحدٍ باسمه وخبرهِ وتاريخه والأبيات التي قيلت في السود ويستحضر من ذلك شيئا عجيباً .. وكان - أعلى الله منزلته - يعمد في ظنّي أن يدهشك بمعلوماتٍ لم تسمع بها من قبل وبطريقة في السرد غير مألوفةٍ لديك تعلق في ذهنك ولا تغادره وتظلّ معها تطلبُ المزيد ..

وقد اعتدنا في مقتبل الطلب والدراسة أن نلقى أشياخنا في المساجد والجامعات في زحام الناس ويكونون في منتصف أعمارهم ونأخذ منهم ونكتب عنهم ونسير على هذا النهج والسلوك .. لكن أن تزور شيخا ثمانينا عالما نبيلا في داره وتجلس أنتَ وإياه فقط وتشهدَ من سمته وأدبه وسلوكه عجبا وتتفرغ لتقرأ كلّ تفاصيل المشهد فذلك شيءٌ كان استثنائياً في حياتي وغير مكرور ..

ويكون شيخُك مع ذلك كلّه كثير الجلال متفننا في اقتناص الفائدة وفي طريقة تقديمها واسع المعرفةِ مهيب الحضور .. وأحسب أنّ من أعظم خلاله أنه لا يرى الدنيا شيئا ولا يكترثُ لها تبصرُ ذلك منه عِياناً ولا تنتظره ليحدثك به كحديثِ الآخرين .. وتلك التي رفعته مكاناً عليا ..

وكانت له - رفع الله منزلته - قدرةٌ على تدوير الكلمات وفصلها ووصلها لإضفاء الطرفة عليها وحين سألني وقتها أين تعمل فأجبتُ ملازم قضائي قال لي على الفور مو لازم أنت مو لازم ومتى إذاً تكون .... ثم يصمت لتجدَ فرصة استيعاب ما سكتَ عنه وتكمله أنت .. وكانت حكايا صمته أحيانا أبلغ من فرائد حديثه .. وقد زرته مع صاحبٍ لي متسم بالعجلة فكان أول أمره بعدما صافح الشيخ أن ابتدره بسؤال : ماهي مؤلفاتكم في الأدب ؟ فالتفت الشيخ لي وهو يجيبه بابتسامة عريضة يقول : الذي أعرفه يا أخي أن الأدبَ قلّ كثيرا في هذا الزمان يشير إلى أنه ليس من اللائق طرح مثل هذا السؤال .. وأدركتُ أنا من العتب أكثر مما أدركه صاحبي الذي لا زال يؤكّد لي حتى الساعة عدم ملاقاة الجوابِ للسؤال ..

وحضرت لشيخنا مرة مع زميلٍ تخرّج في قسم العقيدة فسأله الشيخ ومتى تخرجت ؟ فأجاب : منذ سنتان "أراد أن يتحدث بالفصحى فوقع" نظر له الشيخ بابتسامةٍ معهودة ثمّ قال : منذ سنتان منذ سنتان !! عقيدتك يا أستاذ تحتاج إصلاحا !!

ومرةً سأل طالبين عنده عن شيءٍ ما - وكان بينه وبينهما ودّ ظاهر - وحين حارا في الجواب وأخذ كل واحد منهما يردّ الكلام على صاحبه تمثّل الشيخ قول الشاعر (من البحر الوافر) : شهابُ الدينِ أظظظظرفُ من أخيهِ يشد على الظاء جدا ويترك لمن شاء فرصة مراجعة النص الأصلي للبيت ..

وربما دعا لكَ في مجلسه فقال : اللهم اجعلني من أهل اليمين واجعل فلانا من أهل اليسار .. ثم يعقّب : اليسار هو الغنى والجِدةُ والمال وإنما سألتُ لك الغنى واليسار .. وربما سألَ وهو خارج من المسجد أين حذائي فيقولون له عند الباب الآخر فيضع يده على من بجانبه ويقول : هذا حذائي يقصد أي إزائي وبجانبي ويغضب المجاور له قبل أن يحضر في ذهنه المعنى المقصود ويطرب له .. وكان دائما يرتجل أبياتا شعرية ويدع لمن حوله فرصة إكمال البيت ويسأل عن البحر والأوزان ويعجبه أن تكون الإجابة حاضرةً وصحيحة .. ولا أعرف له قصيدة مكتملة منشورة لكنه كان ناقدا وخبيرا في العروض والبلاغة وقد كنت أنوي أن ألقي عليه من القصائد بعض الذي كتبتُ لكنني آثرت السلامة وقد سمعتُ من محفوظاته رائعات الأشعار وجميلات القصائد يحفظها ويلقيها كأعذبِ ما يكون .. واستثنيتُ قصيدة رثاء أخيه عليٍّ رحمه الله فقد تلوتها عليه كاملة لظرف ارتباطها به وهو يترحم عليه ويترضى عنه ولم يعلق عليها بشيء ولا أظن أنها أعجبته ..

ولي معه - سقى الله أيامه - من المجالس ما لا أحصيه كان حديثه فيها كوقع حوافر الخيل أحيانا وأحيانا كتغريد العصافير .. وكانت صمته مثل هدوء الليل أو سكينة البحار .. وكانت مراسم المجلس من بدئه إلى الانصراف تمرّ في هدوءٍ بالغ وتؤمن تماما أنك أمام شيخ لم يكن يوماً من الدهر على عجلةٍ من أمره ولا يمكن أن يكون .. كل حديثه مترسّل وكل خطواته مدركة الهدف محددة الغاية وتبعاً لذلك فقد يكون لزاما عليك أن تحسب لمشروع استئذانك للانصراف من مجلسه نصف ساعة على الأقل قبلها حتى تصلَ إلى مبتغاك .. وكنا حين نخرج معه للصلاة - وما أذكره صلى الفريضة في بيته -فننزل من الدرَج يقف مع كل درجة ويشدّ بذراعه المتكئة على يد الواحد منا ويلقي جميل الأشعار ويسأل و"يظهر الغضب" ولا أظنه يغضب ويَضحك ويُضحِك وهو لا يغادر السكينةَ والوقار ..

وكان يعمد إلى الصلاة في مسجدٍ بعيد غير المسجد القريب منه ويحتسب أجر الخُطى ويلبس للخروج غترةً بيضاء ويصلي من النافلة كثيرا وكان - أعلى الله مكانته - لطيفا مع جيرانه دون أن يعرفوا أبدا عنه أنه عالم أو يدخلوا معه في نقاش مسألة أو حوار .. ولا أظنّ أنه كان يستجيبُ لدعوةٍ من أحدٍ أو زيارة ..

وقد سألني أول مرة عن أبي وإخوتي وأعمالهم ومدارسهم ثم مازال يسألني في كل مرة عن كل واحد منهم باسمه يؤكد لي اهتمامه وحفظه ويغضب إن سألني عن معلومةٍ كان قد قدّم جوابها لي من قبل ثم نسيتها ..

وزرته مع أربعةٍ من الرفاق صبيحة ذات يوم وكان المقصد أن نجلس دقائق ثم ننصرف غير أن المجلس امتدّ وعجبنا من سعة معلومات الشيخ في علم الفلك وجداوله وحكى لنا من ذلك شيئا نفيسا يخلط كلامه بأبيات سارتْ في ركاب القمر وعانقت النجوم ثم يعرج على علم الأنساب وتفاصيل الأسر وفي علم التفاضل والتكامل في الرياضيات إضافةً إلى حديثه المعتاد من علوم الأدب والفقه والتاريخ ..

ومع طول المجلس كان الشيخ يخرج فترة ثم يعود وأدرك بعضُنا أنه يحضّر لنا إفطارا وطلبنا منه أن يأذن لنا فننصرف لكنه ما استجاب ثم إنه استدعاني وناولني عشرة ريالات وطلب مني أن أحضر خبزا من الدقيق الأسمر ذا نخالةٍ واسع الاستدارة رقيق الطبقة لينا على الشفاه وذكر فيه من الأوصاف مالو اجتمعت عليه مخابز مكة كلّها لم تستطعه .. خرجت مسرعا وخشيت ألا يكون الإفطار كافيا للضيوف فاشتريتُ مع الخبز نوعين من الجبن بباقي العشرة وعدتُ فاستقبلني عند الباب وتفحص المُشتَرى ووجد الأجبان فوضعها بجوار الباب وقال لي "وأنتَ خارجٌ تأخذها معك" ولم يزد على ذلك .. وكانت درساً لي ألا أجتهدَ مع شيخنا في مثل هذه الأمور .. وقدم لنا فطورا كأشهى ما يكون .. عَدَدْنا فيه أكثر من عشرةِ أصناف لا ندري كيف استطاع إعدادها أو تحضيرها ..

وكنتُ في قديم الزمانِ أزور دمشقَ فإذا رجعتُ منها قدمت عليه فيقول احك لي واحك لي فأبدأ الجملة أنا ثم هو يصلُ حبلها بذكرياتٍ قديمةٍ بالغة الشجن كثيرة العبرة وكان يحدثني عن حي الميدان وتقسيماته : التحتاني والوسطاني والفوقاني ويحكي عن جيرتهم لميشيل عفلق وحكايا دمشق ومسيراته الرياضية وكان يحب مع رفاقه أو تلاميذه أن يمشوا المسافاتِ الطويلة في ريف دمشق يجدون أثرها على الروح قبل الجسد ..

وقد سألته أن أقرأ عليه من ذكريات أخيه الشيخ علي فلم يُجبني وقال اختر منها ما تريد سؤالي عنه وأنا حاضر في الإجابة وأحضرتُ الذكريات معي وكنت أسأله وأعجب من اتقاد ذهنه وحضور ذاكرته .. وسألته هل الشيخ علي أديب أم قاض فقيه أم مفكر وما الوصف الغالب عليه فقال : "ابتدأ حياته بالأدب وتوسطها بالقضاء وانتهى بالفكر ولم تخل مرحلةٌ من حضور المراحل الباقيات" ..

وكنت أتمنى أن أوثق بعض المجالس بالتصوير أو التسجيل وقد طالت صحبتي للشيخ في عشرِ ثمانينهِ لكنني كنتُ أهابه والله وأخشى أن أغضبه حتى إذا طال الزمن وغزته التسعون ولم يعد بالشيخ جلَدٌ على منعنا تجرأنا عليه .. وكان رحمه الله لا يستسلمُ أبدا لوجعه وربما استقبلك وهو متعب مجهد فلم يظهر لك شيئا حتى تلحظ ذلك أنت عليه .. وزرته مرة وهو مستلقٍ على سريره من التعب لا يستطيع الجلوس فكان يتجلد ويلقي الأبيات كما لو كان على ظهر منبرٍ أو في حضرة جمهور ..

وبعد .. فقد كان رحمه الله حكاية استثنائية في عالم مزدحمٍ بالدنيا والملذات زكيَّ الروحِ كثير الخلوات متصالحا مع نفسه التي حين أراد تزكيتها هيأ لها الأسباب ولم يخاطر بها في الدروب الحالكات .. يهتمّ لأمر المسلمين من غير أن يكون للسياسةِ في مجلسه حديثٌ .. يغرس في وجدانِ جليسه نخيلَ عز تُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويزدري معها المرء نفسه أن يحسب للدنيا حسابا أمام دينه أو يقيم لها شأنا وهي الدنيا .. ولو قلّت مؤلفات شيخنا أو غابت تسجيلاته فإنه كان كتاباً من مجدٍ وحديثا من شموخ وعافّا كافّا وقد رأينا من لهف أشياخٍ لنا على الدنيا والدواوين وتكاثرهم في الأتباع والجماهير ما يأخذ من نصيب تعلقهم بالله وخلوص نصيحتهم له .. والمعصوم من عصمه الله .. وما زال شيخنا يصارع الدنيا ويغالب الأيام ويعزّي نفسه برحيل لداته وأقرانه ويوجَعُ تارةً فيدخل المشفى ونزوره ثم يخرج منه ونصلُ لباب بيته فيقال لنا لا يستطيع لقيا أحد .. حتى توقفت أنفاسه وانطفت بسماته وأسلم روحه لله .. وترك وراءه مكاناً ضافيا في قلوب أحبابه وعبراتٍ تذكره فلا يتقضى دمعها وأبيات تلوّنت بصوته وتشكّلت بلغته وخالط غرامُها القلوب ..

بلغّه الله منازل الشهداء والصابرين وجزاه عنا خير الجزاء ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقه لمحزونون وسلامٌ عليه وعلى ذكرياته الجميلة وعلى تلك الأيام ..

واشنطن ٢٩ / المحرم / ١٤٤١ هـ