في مأتم الحرية.. حين يثأر اللصوص من الأشراف!

المهزلة التي ينفذها الدجالون الآن للمجيء بقائد الانقلاب رئيسا لمصر، حتى يبرز من خلف الستار ويحكم الكنانة صراحة، بعد أن أدار شئونها من خلفه أسوأَ إدارة وأفشلَها في تاريخ البلاد، هذه المهزلة تستدعي الحديث عما جرى في الانتخابات التي جاءت برئيسنا الشرعي الدكتور محمد مرسي (حفظه الله) رئيسا للجمهورية في إطار الحديث عن القسوة البالغة التي يجابه بها الانقلاب معارضيه.

وبداية لا نستطيع أن نزعم أن الانتخابات الرئاسية التي جرت قبل حوالي عامين تناقض تماما ما يجري الآن على أرض مصر، وإن خالفته من وجوه شتى؛ فقد كانت الدولة العميقة في الانتخابات الأولى حاضرة بقوة، وكادت تحرف إرادة المصريين بالرشاوى والتزوير، لولا أن خذلها الله حينذاك، فأضمروها في أنفسهم، وأضافوها رصيدا جماهيريا إلى ثورة يناير التي بيتوا الانتقام من الشعب لأجلها.

ثأر اللصوص:

نعم، بيتوا الانتقام من الشعب؛ أولا لأنه خرج حينذاك يطالب بحريته، ويموت من أجلها، ويفقد في سبيلها عينه ويده وساقه، ويتلقى الرصاص الحي في بطنه وصدره ورأسه، ويعلن أن أحدا لن يحول بإذن الله بينه وبين مطلبه وحقه، مهما امتلك هذا الأحد من القوة المادية، ومهما تآمر وبيّت المكائد.

وما لبث أن جاءتهم الضربة الثانية، فكان الفشل في تزوير انتخابات الرئاسة عام 2012 ضربة قوية لمعسكر الشر بجيشه وشرطته ومخابراته وحزبه الوطني ورجال أعماله وحلفائهم من العرب والعجم، فبعد الإعداد الذي أعدوه، والتجهيز الذي جهزوه، والنفقات التي أنفقوها، والمكر والكيد والتزوير بكل صوره وألوانه، لم يحققوا ما رجوا، ولم يصلوا إلى ما أمَّلوا من فرض مرشحهم على رقاب الناس.

لكن الضربة لم تكن قاصمة، بل زادتهم حرصا على إحكام الخديعة والمكر؛ حتى يحققوا ما يريدون ولو بأن ينسفوا قاطرة الوطن بمن فيها، ويمسكوا بزمام الكنانة نهبًا خاصًا بهم، بدلا من هؤلاء الذين يرجون الله واليوم الآخر، ويعملون للناس قبل أن يعملوا لأنفسهم، ولا نزكي على الله أحدا. وكأن السياسة صارت فقط عمل الفجار، ووظيفة اللصوص وقطاع الطرق، وليس للأطهار فيها نصيب منذ مات أبُو بَكْرِهم، واستُشهِد عُمَرُهم وعثمانهم وعليُّهم!!

إن الذي يبصر ما يفعله الانقلابيون اليوم بالشعب الثائر المسالم في شوارع مصر وسجونها، يتأكد أن بينهم وبينه ثأرا موروثا، ودما قديما، فبحار الدم القاني التي أسالتها – ولا زالت - ميليشيات السيسي في رابعة والنهضة وسيناء ورمسيس وغيرها، والتعذيب والتنكيل الذي يتعرض له المعتقلون، أفاعيل لا يقدم عليها إلا رجل أو قوم ينتقمون ممن فجعهم في أب حبيب، أو ابن عزيز، أو دمّر لهم قصرًا مشيدا، أو أحرق لهم رزقا مبسوطا، أو انتهك لهم عرضًا شريفا..

وحين تبحث في القضية لا تجد للشعب المصري جريرة استحق عليها عقوبة الانقلابيين القاسية سوى ثلاث كما سبق:

الأولى: ثورة يناير الشعبية العارمة التي هزت كبرياءهم، واضطرتهم – بجبروتهم وجيشهم وشرطتهم ومخابراتهم – إلى أن يتحايلوا عليها تحايل الثعالب، ويتلصصوا تلصص الخائف من انكشاف أمره وانفضاح سره، فلبسوا مضطرين غير لبوسهم، وبدوا على غير حقائقهم، حتى ظهر قائد الانقلاب وسلفه وأعوانهما كالقطط الأليفة التي تخفي داخلها ذئابا فاتكة، ووحوشا لا تعرف الرحمة، ولا تميز حراما من حلال، ولا تعرف حقا لوطن أو دين أو خلق أو إنسانية.

الثانية: تغليب مرشح الثورة الأخير على مرشحهم برغم أنوفهم، وإبطال جميع خططهم التي سعت إلى تقديم شفيقهم على صخرة الثورة الأخيرة محمد مرسي رئيس مصر الشرعي الوحيد.

الثالثة: أن الشعب لم يرضخ للانقلابيين حين قاموا بعملهم الأثيم، وأطاحوا بالرئيس الشرعي والمجالس المنتخبة ودستور ثورة يناير، فقد اعتاد العسكر طوال العقود الماضية أن يقولوا فيُسمَع لقولهم، ويأمروا فلا يتردد أحد في طاعتهم، ويشيروا فيطير الناس إلى طاعتهم طيرانا. لكنهم فوجئوا هذه المرة بشعب غير الشعب، وناس غير الناس، وعلموا أن هبة يناير لم تكن فعلا عابرا، ولا تصرفًا طائشًا، بل موقف ممتد؛ متجذر في المشاعر، مغروس في النفوس والعقول.

إنه الثأر إذن؛ ثأر اللص ممن كشف سرقته، والقاتل ممن نشر أدلة جريمته، وثأر الناهب ممن غلّ يده عن الحرام.. لقد كانت الثعالب هاجعة بعد وجبات دسمة من دجاج الوطن، والذئاب مسترخية بعد أن عَدَتْ على ثرواتنا وخيرات بلادنا، ونهشت قلب الوطن النازف. وفجأة قام الصريخ ينادي أن هلموا لتدفعوا الذئاب العادية والثعالب الماكرة، فاضطربت الكواسر والضواري للشربة الحرام التي انتُزعت من فمها، والأكلة الحرام التي أُخذت من بين نيوبها.

هنا – وبعد فصول من مكر الليل والنهار لملموا خلالها صفوفهم وجمعوا كيدهم - انطلقوا يفتكون بالناس بلا رحمة، ويسفكون الدماء بلا رأفة، كالذئاب الجائعة انفردت بقطيع من الغنم الأعزل.. فما من رصاصة أطلقها أو يطلقها الانقلابيون على مواطن ثائر، ولا سوط يلهبون به ظهر معتقل، إلا وهو ترجمة لهذا الحقد والغيظ من الشعب المصري الذي أقض مضاجعهم أخيرا، بعد أن سيطروا على البلاد والعباد بلا منافس حقيقي ولا معترض مؤثر طوال ستة عقود سودٍ كالحة السواد.

مرشح الإخوان:

أظن أنه لا يختلف معي عاقل فيما سبق تقريره من أن السبب الأول في العقاب الذي يوقعه الانقلاب بأحرار الشعب المصري يرجع إلى ثورته ضد الظلم والاستبداد في 2011، ثم ثباته في وجه الانقلابيين ورفضه لجريمتهم النكراء، أما تقدم الإخوان بمرشحهم، فليس في نفسه سببا للانقلاب، ولكن هزيمة الثورة المضادة في معركة الرئاسة المجيدة التي فاز فيها مرشح الشعب والثورة أدى إلى التربص بالتجربة العظيمة والانقلاب عليها.

ولكي ندرك جيدا هذا الأمر يجب أن نتذكر أولا أن الشعب المصري الذي قام بثورة 25 يناير، وظهر أمام مرآة التاريخ في صورة يعز مثيلها، ما كان له أن يقبل بالانقلاب، أو يرضى بانتزاع حقوقه من يده من جديد وهو يتفرج بعد أن عرف الفرق بين الاستعباد والاستبداد وبين الحرية.

أما ثانيا، فيجب أن نتأكد أن الثورة المضادة بقضها وقضيضها في الداخل وحلفائها وأعوانها في الخارج، ما كانت لترضى عن انتزاع مصر من يدها وعودتها إلى المخلصين من أبنائها وهي صامتة لا تفعل شيئا، ومن هنا لم يكن من انقلابهم بدٌّ ما دامت الدولة لن تسقط في أيديهم بوسائل الإفشال والتعويق.

إننا لكي نرى الأمور – بعد هذا - من زاويتها الصحيحة، بعيدا عن الغبش والتشويش الكثير الذي أحاط بقضية تقدّم الإخوان بمرشح لهم في انتخابات الرئاسة قبل عامين، لابد أن نقف مع من يدعي إلى اليوم أنه لولا تقدم الجماعة بمرشحها هذا ما انقلب العسكر على شعبهم، ولا ارتكبوا هذه المجازر، ولا تفرق الصف الثوري.

حين نستحضر صورة المشهد المصري التي كانت ساعتئذ، سنجد أن الثورة المضادة كانت تزحف من كل جهة، وتقبل من كل ناحية: تخرج من شقوق الأرض وخروم الجدران، وتسقط مع الماء من صنابير بيوتنا، وتدخل مع الهواء من أبواب دُورنا وشاشاتنا وهواتفنا، وبدا أنها لن تيأس حتى تئد ثورة الشعب أو تهلك دون غايتها..

وكان يحس بهذا الزحف الدنس كل مخلص في هذا الوطن، إلا أن قليلين - للأسف - هم الذين اكتشفوا بدقة وفي وقت مبكر أطراف المؤامرة، وعرفوا كيف لُعِب بالثورة والشعب والدولة برمتها على يد شبكة المصالح القديمة من دولة مبارك بمخابراتها وجيشها وداخليتها وخارجيتها وحلفائهم.

وأخطبوط كهذا لا يكافئه لكي يقف في وجهه – والأمر كله لله - إلا شعب مضحٍّ وأمة مجاهدة، في القلب منها تشكيل اجتماعي فكري وسياسي كبير يستند إلى عقيدة، وينطلق من دين، يضحي قادته قبل جنوده، ويثبُت جنوده بثبات زعاماته، ويدفع أعضاؤه الثمن من مالهم وأمنهم وحريتهم ودمائهم، ويجمع حوله ما استطاع من قوى الأمة وطاقاتها.

ثم مَن هؤلاء الذين فرق مرشح الإخوان صفوفهم من الثوار؟ إنك حين تلوم الإخوان على هذا الأمر، فكأنك نسيت أن بعض الشراذم الثورية قد انضمت إلى انقلاب العسكر، وشجعت على قتل الأبرياء، وهللت له في هستيريا عجيبة، وكأنك تعفي هؤلاء – تحت غطاء كثيف من الهجوم على الإخوان - من الجريمة العظيمة التي ارتكبوها في حق وطنهم وحق الإنسانية، وتريد أن تغطي على خطيئتهم التي سيحاسبهم عليها التاريخ كما حاسبهم عليها الشارع الثائر حتى لفظهم، وانطلق في ثورته بدونهم لا يلوي على خائن أو مثبِّط.

والأيام – مع هذا – كشفت لنا عن طبيعة المرشحين الذين كان من الممكن أن يدعمهم الإخوان في انتخابات 2012، وخيرهم كان سيستسلم لضغط العسكر والدولة العميقة حقنا للدماء، ومحافظة على وحدة مصر كما قد طالب بعضهم، ولو فعلها لما اختلف انتقام العسكر من الشعب عما حدث ويحدث الآن إلا من حيث الدرجة، لكنهم كانوا سيمضون إلى وجهتهم في القضاء على كل سبب أدى إلى انتفاض الشعب ضدهم في ثورة 25 يناير.

إن ثبات الرئيس الشرعي المنتخب في وجه الضغوط العاتية، قوّى ساعد الثورة، ونفخ فيها روح الصبر، وأطال بحمد الله أنفاسها حتى قاربت العام الكامل، وهي تقوى وهم يتضعضعون، وهي مقبلة بفضل الله على نصر، وهم مستدرجون إلى هزيمة وخسار.

إعلام العار مقياسا:

ولماذا نبتعد كثيرا، ونخوض كل هذا الجدل ما دام يمكننا أن نتذكر ردود أفعال إعلام العار حينئذ، وهو مسبار مهم نقيس به المواقف، ونعرف من خلاله اتجاه الريح، فقد ظهر أن الإعلام المأجور كان وبقي ركنا ركينا في خطة الثورة المضادة للفتك بالثوار والوطنيين، والإطاحة بآمال الشعب في الحرية والعيش الكريم، فتولى الإعلام مهمة السيطرة على عقول الناس، وصناعة مواقفهم بصورة منحرفة عن الحقيقة، ونال الإخوانَ قسطٌ كبير من دجل هذا الإعلام وافتراءاته وهلوساته؛ لأنه بدا أنهم أكبر قوة تخافها الثورة المضادة كما أكدت أحداث يناير وفبراير 2011.

وكان التحريض والدفع بالإعلام إلى مواقف معينة أمرا ظاهرا، ولكن كثيرا من حسني النية – ومنهم الإخوان المسلمون أنفسهم للأسف - لم يتصوروا أن الجيش وقادته هم المحرض الرئيسي لهذا الإعلام الخبيث والفاتورة من جيوب أشاوس العرب!!

فماذا قال الإعلام حين أُعلن عن تقدم الإخوان بمرشحهم لرئاسة الجمهورية؟ لعلنا نذكر جيدا كيف هاج وماج الإعلام، وعلت نبرات الرمي بالكذاب والاتهام بالخديعة، وثارت ثائرة الأحزاب التي شكلت جبهة الإنقاذ فيما بعد، وكلها من أركان الانقلاب، أو الواجهة السياسية له، واتهموا الإخوان بالكذب وإخلاف المواعيد، وكأن المطلوب من الإخوان أن يروا الآخرين يكذبون، ويرتبون للغدر، ويجهزون للدفع بعمر سليمان إلى حلبة السباق الرئاسي، دون أن يكون لهم من وظيفة إلا وظيفة الطفل الأبله الذي لا يدري شيئا عما يدور حوله، وإن درى عجز عن فعل أي شيء!

حين نتذكر ثورات إعلام العار ضد ثورة المصريين، ومتى كان يهيج ومتى كانت يهدأ، وأن ذلك كان بتدبير الثورة المضادة وفي قلبها المجلس العسكري، سنرى أن المرات التي علا فيها الضجيج وارتفع الزعيق الإعلامي، كانت مرتبطة بقرارات وأحداث من شأنها أن تمكن لثورة الشعب، وتدحض الثورة المضادة، واستحضِرْ إن شئت ثورة الإعلام عند ترشيح المهندس خيرت الشاطر أو الأستاذ حازم أبو إسماعيل والإعلان الدستوري الذي حصَّن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لإعداد الدستور، بل استفتاء مارس 2011 على التعديلات الدستورية، وغيرها.

إنني منذ دفع الإخوان بالمهندس الرائع خيرت الشاطر، ومن بعده بالأستاذ الجامعي العظيم الدكتور محمد مرسي إلى السباق الرئاسي المصري عام 2012، منذ ذلك الوقت أزعم أن هذا هو أعظم قرار في سياق الحدث المصري بعد أحداث ثورة 25 يناير؛ فقد أطاح بمرشح الثورة المضادة، وكشف أعداء الوطن صراحة، وأتاح للمصريين فرصة للمرور بتجربة الحكم المدني بدل العسكري، والوطني بدل العميل، والمستقل بدل التابع، والخادم للجماهير لا المستخدم لها، والبشري الذي يقبل النقد لا المتأله الذي لا يطيق صوتا معارضا، والمتجاوب مع هوية الأمة الأصيلة لا المحارب لها، والفاتح لأبواب الحرية بدل أبواب السجون.

وكل هذا أيقظ في نفوس أحرار المصريين الشعور بالكرامة، وأنهم لن يقبلوا بحول الله العودة إلى عبودية العسكر أو غيرهم مرة أخرى!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين