في رثاء العلامة الكبير الفقيه الأصولي النظّار الدكتور محمود مصطفى عبود هرموش رحمه الله تعالى

 

 

إلى اللقاء شيخنا أبا عبد الله

ليس على قضاء الله اعتراض، ولا من قضائه مفر، ولكنه الفراق الصعب، الذي يجعل الصغير يتيما مكسور الخاطر مهيض الجناح.

من فضل الله تعالى علي أنه أرشدني لملازمتكم وخدمتكم، فرأيت من خصالكم الرضية ما يملأ القلب والعين، ويُعَلِّم بالجوارح والأحوال قبل الأقوال...

رأيت من عظيم علمكم ، وكبير عقلكم وقلبكم، ما يندر أن يجتمع في عصرنا عند عالم واحد..

وليس على الله بمستنكر=أن يجمع العالم في واحد

علم غزير، وأدب كبير، وتواضع عديم النظير، وقلب لا يعرف معنى للحقد ولا للحسد. وصدقت فيكم كلمة شيخنا العلامة محمد عدنان غشيم، محدث حلب، رحمه الله تعالى: (كأن الله خلقكم بلا نفس).

وذكَّرَني حلو الزمان وطيبُه=مجالسَ قوم يملأون المجالسا

حديثا وأشعارا وفقها وحكم=وبِرا ومعروفا وإِلْفا مؤانسا

كم أساء إليك مسيئون، فواجهت كل ذلك بالعفو والصفح. كم تركت من حقوق لك عند الناس طمعا بما عند الله يوم القيامة... كم نشرت علمك لمن طلبه دون نظر إلى خلفيات الطلبة، ومنهم من كان يرتشف من معينكم، ثم يلقي فيه حجرا..

كل هذا تفعله حِسبة لله تعالى .. رائدُك دائما شيوخُك العظام من أهل حمص والعالم الإسلامي، الذين كنت دائما تحدثني عن فضائلهم ومكارمهم.

كم حدثتني عن شيخكم العلامة الأصولي عبد الغني عبد الخالق الأزهري رحمه الله، الذي لم يرتض أن يأخذ دية زوجته وابنه يوم دهستهم سيارة في الرياض، تسليما بقضاء الله وقدره، لتشرح لي لم تركت حقوقا لك في الدنيا طمعا بما عند الله تعالى..

أذكر يوم حدثتني عن شيخكم العلامة الفقيه الشافعي الشيخ أحمد الكعكي الحمصي رحمه الله، يوم كنتم طالبا في المعهد العلمي الشرعي في حمص، وأنكم زرتموه يوما في مرض شديد ألم به، فإذا به ملقى على الفراش وعن يمينه وشماله كتاب روضة الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى يقلبه بين يديه بأجزائه الكثيرة، وكيف أنه قرأ ما في نفسكم من تساؤل، فقال لكم: يا شيخ محمود درجة العالم عند ربه بقدر ما يحفظ من مسائل العلم.

تقول لي هذا لتشجعني على حفظ المسائل ، وأنت يا سيدي ستكون بإذن الله تعالى في عليين لما تحفظه من علم راسخ متين، ما غاب عن عقلك ولسانك حتى وأنت في الرمق الأخير، كما أخبرني ابنك العالم عبد الرحيم..

كنت تحدثني عن شيخكم الولي الصالح الفقيه محمود جنيد، وعن علمه الغزير وتواضعه الكبير، وعن شيخكم العالم التقي النقي الجامع للقراءات عبد الغفار دروبي، وكيف كان القرآن الكريم نَفَسَه الذي يحيا به وله، وكيف أنه يوم زاركم في بلدتكم السفيرة، حرص على أن يتم ختمة كاملة في بيتكم وفي أرضكم، وحدثتني عن كرامة له يومها وهي أن الشجرة التي تظلل بها في البستان كانت الوحيدة في الموسم التي كادت تسجد لله شكرا على حملها.

وحدثتني عن شامة حمص وعالمها الكبير المفتي الشيخ عبد الفتاح مسدي، شيخ حاشية ابن عابدين التي درسها سبع مرات في المسجد الكبير في حمص، وكيف أنه في ليلة من الليالي عز عليه النوم بسبب طالب صغير أساء الأدب مما اضطره إلى تأنيبه وصفعه على خده بلطف يشبه لطف ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسواك، ومع ذلك فاجأ الطلبة في جوف الليل بأنه جاء يعتذر من هذا الطالب المستحق للتأنيب. كل ذلك تحدثني به، لتعَلِّمني أدب الكبار مع الطلبة الصغار أمثالي، ولتحثَّني على التزام القرآن الكريم..

ويوم تعرضتُ لموقف أمني مع زبانية الظلمة لكلمة قلتها في صراحة زائدة، حدثتني عن شيخكم وشيخنا العلامة الخطيب اللغوي المفوه الشيخ وصفي المسدي، وكيف كان يعلمكم حديث النبي صلى الله لعيه وسلم: (إن في معاريض الكلام لمندوحةً عن الكذب). ولولا حبه لكم وافتخاره بكم، كما رأيته بعيني وسمعته أذناي، ثم انتسابي إليكم، ما أجازني رحمه الله تعالى.

كنت تحدثني عن شيخنا أبي زاهد عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، وجلوسكم معه في مكتبة جامعة الإمام في الرياض، وعن تلك التوجيهات والتحقيقات التي أفدتم بها منه، وأن بعض الرسائل التي يحققها قد لا تكون ذات فائدة كبيرة، لكنه عندما يحققها تصبح تحفة علمية نادرة، وحثثتني على شد الرحال إلى اللقاء به، وتقبيل يده، والتشرف بالانتساب إليه.. فأنتم في ذلك أصحاب الفضل.

وقد كنت يا سيدي على خطاهم: علما، وأدبا، وخُلقا، ورحمة، ونورا يسترشد به طلبة العلم أمثالي، وكنت ذلك العالم القدَّاحُ للهمم، الـمُفَتِّحُ للعقول، النابه الـمُنّبِّه، الذي وصفه شيخكم وشيخنا الإمام عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في آخر كتابه (تراجم ستة علماء).

ولو تركت للقلب العنان لما توقف القلم عن بث الورق لواعج النفس..

سيدي ، وشيخي ، ومرشدي ، ومعلمي ، لن أرثيك ، ولكنني سوف أبشر الجنان بقدوم ولي لله تعالى صالح، لأمثاله تفتح أبوابها وتُزيَّن، ولأمثاله قال نبينا صلى الله عليه وسلم (يوزن مداد العلماء بدم الشهداء).

وأي مداد مدادكم، حسبكم كتاب (القاعدة الكلية إعمال الكلام أولى من إهماله وأثرها في الأصول) وهي رسالتكم في الماجستير تحت إشراف عَلَمِ القواعد الفقهية الكبير العلامة الدكتور محمد صدقي البورونو، الذي ذكر في مقدمة موسوعته للأصول أن هذه القاعدة اعتمدت سادس القواعد الفقهية الكلية نظرا لما كتبه (الطالب اللبناني محمود مصطفى عبود) وهذه عبارته..

وكانت لكم حكاية مع العلامة الدكتور عبد الغني عبد الخالق حدثتني بها، أنكم عندما اخترتم موضوع الرسالة جئتموه تلتمسون منه الإشراف عليكم، فقال لكم: يا بني أنا قد لا اعيش إلى السنة القادمة، فاذهب إلى الدكتور محمد صدقي البورنو. وفعلا لم يتم الدكتور السنة، فكانت هذه من كرامته. وقبل يومين من رحيلكم قلتم للممرض الذي كان يشرف عليكم وأنتم تتدارسون القرآن ليلا: يبدو أن الأجل اقترب، ولبثتم بعدها يومين فقط.

وبالعودة إلى موضوع الرسالة، يذكر الذين حضروا المناقشة كيف طالت ساعات وساعات لأجل مبحث المجاز الذي كان حجة قوية على المنكرين، حيث حشدتم فيه المجاز في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فنلتم درجة الإمتياز مع مرتبة الشرف، ولكن لم تصدر توصية بالطبع مثلما جرى العرف في مثل هذه الرتبة ليحافظوا على هيبة مذهبهم في أرضهم.

ومن مدادكم كتاب: (البدعة وأثرها في اختلاف الأمة)، وهو أطروحتكم للدكتوراه، الذي كتبته بمداد القلب نصيحة لشباب الأمة الذين لم يدركوا حقيقة العلم، فتقاتلوا على المسميات.

ومن مدادكم كتابكم الفذ العظيم (غاية المأمول في توضيح الفروع للأصول) الذي بدأتموه محاضرات لتلامذتكم في (معهد طرابلس الجامعي للدراسات الإسلامية) قربتم به علم أصول الفقه إلى طلبته.

ومن مدادكم كتاب (مقاصد الشريعة بين المذهب الإباضي والمذاهب الإسلامية الأخرى) [٣ مجلدات]، الذي أردت من خلاله ردم هوة الخلاف بين المذاهب ... والذي قلتم في مقدمته: «إن من يفتش عن المساحات التي تحقق الوحدة الإسلامية الشاملة، والأخوة الإسلامية المباركة، التي هي أم المقاصد، لَيَجِدُ ضالته في هذا الكتاب، وما كُتب في هذا المضمار من قبل، ولن يبذل جهدا مضنيا، لكنَّ من أراد البحث عن أسباب الفرقة والاختلاف فالهدمُ عليه أيسر من البناء، وكل ميسر لما خُلق له».

وهذا الكتاب هو واحد في سلسلة دراساتكم في المذهب الإباضي: تقعيدا، وتعريفا، وتفهيما، وفي ذلك يقول معالي الشيخ عبد الله السالمي وزير الأوقاف والشؤون الدينية في عُمان في تقديمه لكتاب (مقاصد الشريعة): «يأتي كتاب الشيخ الدكتور محمود مصطفى آل هرموش – هكذا – بجديدين، الجديد الأول: تتبع إعمال مقاصد الشريعة في المؤلفات الفقهية لأئمة المذهب الإباضي. والثاني: مقارنة ذلك بالتفصيل مع آراء فقهاء المذاهب الفقهية الأخرى بقصد إظهار التوافق والتطابق أو الاختلاف...

منذ عقد ونيف افتتح الدكتور مصطفى هرموش – هكذا – بحوثه في الفقه الإباضي، بعملٍ موسَّع عن القواعد الفقهية الإباضية. ثم تتالت مؤلفاته في فقه الإباضية، ومن ضمن ذلك عمله الكبير على فقه العلامة نور الدين السالمي. ويأتي كتابه هذا ذو الثلاثة أجزاء في مباحث مقاصد الشريعة عند الإباضية مقارنا بمباحث علماء وأصوليي المذاهب الفقهية الأخرى في نفس الموضوع».

ويقصد بالعمل الموسع (معجم القواعد الفقهية الإباضية) الصادر في مجلداته السبع. إضافة إلى كتابكم (إجتهادات الإمام السالمي).

وحسبك .. وحسبك ..

جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم=بعد الممات جمالُ الكُتْب والسِّيَرِ.

فكل ما كتبته يا سيدي كان يهدف إلى أمرين أساسين: وجه الله سبحانه وتعالى، وتقريب وجهات النظر بين مكونات الأمة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإخلاص والعلم..

يعز عليَّ الوقوف عن الكتابة، فمكارمكم لا تكفيها كليمات، ولا تسعها ورقات، وحسبكم أنكم تركتم وراءكم أبناءً علماءَ كراما بررة، وتلامذة يعاهدونك أن يجتهدوا بالعمل بما علمتهم إياه. وأهم ما كنت توجه إليه أن يكون طالب العلم على خطى من سلف من الأئمة فيأكل من عمل يده ولا يقتات بدينه.

لا أجد ما أقوله إلا ما قاله علامة حماه الشيخ محمد الحامد في رثاء الإمام الشهيد حسن البنا رحمهما الله: «وما الذي يكتبه عاجز مثلي ضعيف الجنان والبيان في عظيم قد استجمع العظمة، فما من جانب من جوانبها إلا وهو فيها طود أشمّ، أو روض زاهر، أو خضم زاخر، أعجز الناس سبقًا في خصوصياتهم: فبزّ الفقهاء في دقة النظر وصحة التصوير، والأدباء في حسن البيان وجمال التعبير، والخطباء في النفوذ إلى الأرواح وملئها تأثرًا بما يريد، والمتوسمين في صدق الفراسة وجودة النظر، والمفكرين في سعة أفق التفكير، فلا ضيق عطن، ولا وعورة فكر، بل حلٌ للمستعصيات، وفتح للمغلقات في سهولة ممتنعة تُخال قريبة وهي عن غيره بعيدة». وهكذا أنتم.

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها=وما لها مع طولِ الدهرِ نسيانُ

وأختم برثاء زميله في الدراسة أيام القاهرة، العالم الأديب الشاعر المِفَنَّ الدكتور عبد الستار الزعبي، كان الله تعالى له في غربته، فقد كتب على صفحته الخاصة: رحمك الله يا رفيق الصبا، وجمعنا بك في جنات النعيم. ثم أنشد راثيا:

ولقَدْ عرَفتُك منذُ أيامِ الصِّبا=تسْعَى بنوْرِ اللهِ بينَ الناسِ

مُتألقاً بالعِلْمِ بابًا للتُّقَى=حَسَنَ السَّجايا طاهِرَ الأنْفاسِ

وبَقِيْتَ حَتَّى مِتَّ نِبْراسًا سَما=بالفَضْلِ والإشراقِ والإِيْناسِ

فاللهَ أسْألُ أنْ يجازيَكَ الرِّضا=وجَنَى الجِنانِ وخِيْرَةَ الجُلّاسِ

وبقي أن ألخص سيرة شيخنا العلمية رحمه الله تعالى:

۞ ولد رحمه الله تعالى في قرية السفيرة من أعمال الضنية شمال طرابلس سنة 1954.

۞ درس العلوم الشرعية في المرحلتين الإعدادية والثانوية في المعهد العلمي الشرعي في حمص، وتخرج سنة 1975 بردرجة امتياز. وفي أثناء ذلك رشح من قبل إدارة المعهد للخطابة في جامع الدالاتي.

۞ انتقل بعدها إلى القاهرة حيث انتسب إلى كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر ونال شهادة الليسانس في العام 1979.

۞ ثم انتقل بعدها إلى الرياض حيث انتسب إلى جامعة الإمام محمد بن سعود، ونال دبلوما في الفقه وأصوله عام 1981 بتقدير جيد جدا، ثم الماجستير في الشريعة بتقدير ممتاز عام 1982.

۞ ثم عاد إلى لبنان وباشر بث العلم الذي أكرمه الله تعالى به، وكثر طلابه ومحبوه، ثم التحق بكلية الإمام الأوزاعي في بيروت، ونال منها شهادة الدكتوراه سنة 1993 ، بتقدير : ممتاز.

۞ حائز على رتبة أستاذ في أصول الفقه، وعلى جوائز وأوسمة متعددة. كما كرم في محافل علمية جامعية وفقهية، محلية وعالمية.

رحمك الله تعالى يا شيخنا رحمة واسعة، وجزاك عن العلم وطلبته خير الجزاء:

سرى نعشُهُ فوق الرقابِ وطالما=سرى (علمُه) فوق الرِّكاب، ونائلُهْ

يمر على الوادي فتُثني رمالهُ=عليه، وبالنادي فتبكي أراملهْ.

وأردد مع المكلوم قوله:

أَسُكَّانَ بطنِ الأرضِ لو يُقبَلُ الفِدا=فدَيْنا، وأعطينا بكم ساكنَ الظهرِ