في رثاء الشيخ عبد الرزاق الشيخ بكرو ( ابي أيمن)

في عام 1999م كُلِّفت والأخ الصديق المهندس الدكتور ناهد الغزال من قبل الجمعية الطبية الإسلامية بالسفر إلى أستراليا لجمع التبرعات من أجل بناء مستشفى الشفاء في طرابلس، فوافى وصولنا مساء الخميس ، وفي اليوم التالي ذهب بنا الأخ الكريم الطيب علي شوك إلى أحد مساجد ملبورن لصلاة الجمعة، وكان هذا المسجد هو مسجد بلال بن رباح رضي الله عنه في منطقة نيو بورت حيث تحتشد الجالية المسلمة، وخوفا من أن أتورط بتقديمي إلى الخطبة كنت أتوارى من أعين المعنيين ، ثم أذن المؤذن أذانه الثاني، وأنا لا أرى الخطيب الجالس على المنبر ولا أعرف من هو، ثم بدأ الخطيب ، وإذا بي أسمع صوتا جهوريا قويا ذو نبرة عالية راقية رائعة، تنمُّ عن علم عميق وفعم دقيق ودراية اجتماعية بأحوال الناس، وهذه النبرة ما كنا نسمعها إلا من شيوخنا الفخام الكبار وعلى الخصوص السوريين منهم، وما زلت إلى اليوم أذكر الموضوع الذي عالجه الخطيب، وهو: (مسؤولية الأهل تجاه الأبناء في المهجر)، فبات عندي حرص كبير في التعرف على هذا الخطيب المفوه العالم الخبير، وبعد الصلاة تقدمت للسلام عليه والتعرف به، فإذا هو الشيخ عبد الرزاق الشيخ بكرو، أبو أيمن، تلميذ الشيخ محمد الحامد، والشيخ سعيد العبد الله، وحينها أدركت مصدر هذه العظمة العلمية والدعوية التي كانت تصبغ خطاب الشيخ. فكانت هذه المرة الأولى التي أتشرف فيها بالتعرف على الشيخ رحمه الله تعالى، ولكنه حصل من الأنس بيننا ما الله به عليم، وباتت المراسلات لا تتوقف بيننا وبخاصة بعد رجوعي إلى لبنان.

ثم وفي مطلع عام 2001م غادرت لبنان إلى سيدني أستراليا بنية الإقامة طويلة الأمد هناك، ومن البدهي جدا أن يكون مرجعي في العلم والدعوة والحكمة هو شيخنا أبو أيمن لما يتمتع به من عقل نير، وصبر عجيب، وفهم دقيق، وأسلوب مميز في الدخول إلى قلوب الناس. وقويت الرابطة أكثر فأكثر، حيث عوضني الله تعالى بأبي أيمن المحاضن العلمية التي فقدتها في بلاد الشام بهجرتي إلى أستراليا، فكنت أتردد إليه في ملبورن بين الفينة والأخرى على الرغم من بعد المسافة بين سيدني وملبورن، ولكنه القلب وما يهوى، والطفل عندما يحن إلى محضن دافئ يلتمس فيه الأمان..

وفي إحدى المرات وجدت عنده دورية شرطة، ولما رأى الاستغراب الذي يقارب الفزع في عيني طمأنني، وقال لي: الشباب جايين يشربوا فنجان شاي.. فهدأ روعي ولكن لم يذهب استغرابي، وبعد رحيلهم أخبرني أن الشرطة بشكل عام تستروح إليه ويزورونه من وقت لآخر، وبخاصة بعد أن كرَّمته قيادة ولاية فكتوريا العسكرية للجهود الاجتماعية الكبيرة التي قام فيها الشيخ رحمه الله تعالى، حيث إنه خلال عام واحد فقط استطاع أن يؤثر في مجتمع نيو بورت تأثيرا عجيبا، ويحول كثيرا من الشباب من حياة الشارع، إلى عمارة الجوامع، فغابت المشكلات التي كانت تتولد عن البطالة والطيش عند الشباب، فشكرت له الدولة فعلته هذه حتى إن القائد العسكري للولاية قدم للشيخ في حفل التكريم على الملأ رتبه العسكرية التي كان يضعها على كتفيه، قائلا له: أيها الشيخ الجليل أنت أحق مني بهذه الرتب، فأنت أستطعت أن تفعل ما عجزنا نحن عنه.

وهكذا أصبحت العلاقة بين أب وابنه، وأخ كبير وأخيه الصغير، ومريد مع مرشده وشيخه، وصار السؤال عن الحال والدعوة ، وصارت التوجيهات والإرشادات أمرا يوميا وبدهيا مع توافر الاتصالات ويسرها في تلك البلاد، لدرجة أنه كان يتابعني باستمرار في ملف استقدام عائلتي إلى استراليا، هذا الملف الذي استمر أشهرا خمسة، لا أغالي إذا قلت كان شيخنا رحمه الله تعالى يتابعه كما يتابع قضية لولده .. فلما وصلت العائلة إلى سيدني، أخبرته، فأرسل لي بتاريخ 15 جمادى الأولى سنة 1422 / 5 / 8 / 2001، برسالة تنضح حبا وعاطفة صادقة، وحنوا، رحمه الله تعالى، ضمنها أبياتا لطيفة قرضها على البداهة، قال:

بُلِّغتُ عنك تحيةً ... منها فؤادي فرحا

وحضور أهلك سرَّني .. والقلبُ مني شُرحا

هَنَّاك ربي بهمُ .. وقضيت وقتا مفرحا

وجزيت خيرا دائما .. ورُزِقتَ دوما منحا

أُعطيتُمُ طول البقا .. ءِ، وكل شيء مربحا

صلوا على خير الورى .. ربي به قد فتحا

خيرِ الأنام شفيعنا .. ما الطير دوما سنحا.

رحمك الله تعالى أيها الوالد الشفوق، المحب، والمربي الصدوق، لا أدري بأي لسان أرثيك، وكل المعاني لا تلبي اللوعة في القلب، ولا تجبر الكسر، ولا تعوض الخسارة..

اللهم تقبله عندك في المجاهدين الصابرين في سبيلك، وعوضه غربة البلد وفراق الأهل والولد، صحبة النبي الأكرم وطنِ كل غريب، ومقصد كل حبيب.

وإنا لله وإنا إليه راجعون..