في الذكرى الواحدة والعشرين لوفاة والدي الشيخ محمد مجاهد شعبان

تمر الأعوام وما زالت الصور والذكريات حاضرة في بالي لا تفارقني، لأنني كنت أكثر إخوتي ملازمة للوالد بحسب سني، وكان اصطحابه لي معه دائما سبباً في ذلك.

أذكر وأنا طفل صغير مواقف والدي رحمه الله مع العلماء والشيوخ الأفاضل في حلب، وأهم موقف أدبه الجم مع أساتذته وشيوخه، ومع أن عائلة الوالد ليست من عائلة علمية بل من أهل الفتوة وعزة النفس، ولكنه أمام العلماء لم أر منه إلا أدبًا جمًا عجيباً تعلّمه منهم.

وأول من أذكر من مشايخه أستاذه الشيخ المهاجر بدينه عبد الرحمن زين العابدين بن الشيخ ملا زين العابدين الأنطاكي الكردي التركي الشافعي رحمه الله. فقد كنت أذكر الشيخ مريضاً ضعيفاً في أواخر حياته، وكان يحضر خطبة الجمعة عند والدي في جامع التقوى الكائن في منطقة سيف الدولة، ويجلس مستنداً إلى عمود أمام المنبر، يستمع إلى الخطبة وينظر إلى الوالد، وبعد صلاة الجمعة كان الوالد يجلس معه في حلقة علمية مع عدد من الأشخاص ويسألون الشيخ ويستمعون منه، وكان الشيخ خفيض الصوت يتكلم همساً باللغة العربية الفصحى، والوالد يجلس أمامه على ركبتيه بكل أدب وتواضع يسأله ويستمع إليه ثم يكرر الجواب أحياناً ليسمع باقي الناس في الحلقة كلام الشيخ، وكثير من الأحيان كان الوالد ينقل أسئلة الحضور للشيخ بلغة عربية فصيحة ثم يستمع الجواب ويكرره بصوت أعلى للحضور.

ولا أنسى طريقة جلوس والدي أمام شيخه وميله للأمام قريبًا من وجهه ليسمع صوته ويكلمه بصوت خفيض هامس بكل أدب ووقار.

بعد وفاة الشيخ سمعت والدي يقول لمن حوله: وأنا في خطبة الجمعة ما زلت أنظر إلى عمود الشيخ مكان جلوسه وفي نفسي حزنٌ فقداً له.

فقد كان الوالد من لحظات سعادته أن يجلس مع الشيخ في حلقته بعد صلاة الجمعة.

وكذلك أذكر خروجنا مع الشيخ إلى مزرعة جدي الحاج محمود شعبان وكان الشيخ قد تجاوز السبعين برفقة الحاج ماهر سباغ حفظه الله، وكان الوالد يساعد الشيخ في مشيه وتحركه وانتقاله من السيارة إلى مجلسه كأنه أحد أولاده المقربين، وكان في المزرعة بعض الأصدقاء ومعهم مسدس خرز للصيد، وكان والدي يعرف مدى حب الشيخ للسلاح فطلب منهم أن يقدموه للشيخ، فأخذه الشيخ وتفحصه بعناية، فقال والدي: سيدي هل أضع لك هدفاً تضرب عليه. فأشار الشيخ أن نعم. فوضعت قطعة من الخشب على النافذة المفتوحة وكان الشيخ كما ذكرنا قد تجاوز السبعين وقد ضعف بصره وحركته، ولكنه عندما أمسك المسدس ووجهه إلى الهدف ثبت كأنه صخرة ثم أطلق فلم يصب الهدف، فقال الشيخ: المشكلة في المسدس، فأعاد فحصه وعدل إشارة الهدف فيه ثم أطلق مرة أخرى فأصاب.

وأذكر كذلك بعض زيارات الوالد لبيت الشيخ التي صحبني فيها معه، فقد كان الشيخ مضجعاً على الفراش أو جالسًا بسبب مرضه، وكان والدي يجلس قريباً من رأسه على الأرض أو على كنبة قريبة ويميل إلى وجه الشيخ ويكلمه بصوت منخفض والشيخ يتكلم بصوت كأنه الهمس، فكأنهما يتناجيان العلم، فإذا كان معه في الزيارة أحد كان الوالد رحمه الله يرفع الصوت بالجواب.

وفي مرض وفاة الشيخ حينما نقل إلى المستشفى، كان الوالد يعوده يومياً بعد دوامه في دار الأيتام الإسلامية حيث كان يعمل، ويعود إلى البيت يرتاح قليلا ثم يذهب مساء إلى المستشفى لعيادة الشيخ مرة أخرى، وقد زرت الشيخ معه في احدى المرات وكان الشيخ ضعيفاً جداً صوته لا يكاد يخرج، ولكنه كان قوي الإرادة. أذكر أن احدى الممرضات الأرمنيات أرادت أن يفتح فمه لشيء فلم يقبل ذلك وأصر على عدم فتحه حتى كلمه الوالد بصوت منخفض وأقنعه بفتح فمه.

ولا زلت أذكر في ليلة من الليالي عاد الوالد إلى البيت متأخراً حزيناً كسير الخاطر وقال جملة واحدة: توفي الشيخ. وسمعته بعد أيام يقول لبعض تلامذته، فقدُ شيخي جعلني في ضياع، إذا اعترضتني مسألة أو معلومة فإلى من أعود؟ ومن أراجعه فيها؟

ومن ذكرياتي من أدب والدي مع شيوخه أدبه مع شيخه ملا خليل الكرمي الكردي رحمه الله، الذي كان يقرأ بدائع الصنائع في جامع النور في سيف الدولة، وكان الوالد يحضر عنده ويقرأ هو والشيخ يشرح والوالد يعلق أحياناً على بعض شروحه، فكان يجلس على ركبتيه يمين الشيخ غالباً ولا يعلق حتى ينتهي الشيخ من شرحه وتفصيله، وكان الوالد يدعو الشيخ إلى زيارتنا كل فترة للفطور أو الغداء، وأذكر سعادة والدي عند قدوم الشيخ إلى بيتنا، وعمله في المطبخ مع الوالدة قبل قدوم الشيخ وعند قدومه، وكان من عادة الشيخ ملا خليل أن يأتي معه عدد لا بأس به من تلامذته فكانت الغرفة تمتلئ حتى يجلس الطلبة على الأرض، وكان الوالد يركض بين يدي الشيخ بالطعام والشراب، وأحياناً لا يقبل الجلوس على المائدة بل يقف خدمة للشيخ وتلامذته، وعندما يحضر وقت الشاي كان الوالد يجلس على الأرض أمام الشيخ ويتكلمون في العلم ومسائله، ثم لا يرضى الوالد إلا أن ينزل مع الشيخ إلى باب البناء بعد انتهاء الزيارة مودعاً له.

الشيخ ملا خليل الكرمي

ومن أدب الوالد مع شيوخه أذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، فقد كان الوالد معه كالتلميذ الصغير، الذي يسير بين يدي أستاذه بكامل الأدب، والمواقف كثيرة أمام الشيخ ربما أُفردها بمقالة كاملة، ولكن لا أنسى أن الوالد أرسلني مرة يستأذن الشيخ أن يحضر لزيارتنا في مزرعة جدي الحاج محمود، ووصلت بالسيارة وكان عمري 16 عاماً، واستأذنت الشيخ فقال: حاضر أنزل الآن، وانتظرت الشيخ في السيارة فنزل بعد دقائق وتوجهت إلى مزرعتنا وكان والدي يقف على شرفة البيت الريفي الصغير ينتظرني فلما ميّز الشيخ بجانبي، نزل من الشرفة يركض ركضًا حتى وصل إلى الطريق مستقبلاً الشيخ قبل نزوله من السيارة بفرح وبهجة نادراً ما كنت أراه فيها، وجلسا وحديهما على شرفة البيت يتكلمان في العلم وأهله.

فهذه بعض لمحات ذكرياتي عن أدب والدي الشيخ محمد مجاهد شعبان رحمه الله تعالى أمام أساتذته وشيوخه، هذا الأدب الذي تعلمناه بالمعايشة والمشاهدة وليس في الكتب والمقالات.

فرحم الله والدي وأشياخه الكرام الذين زينوا حياته وحياتنا بالأدب والعلم.

- ذكر لي ابن الشيخ الشهيد جمال زين العابدين أنهم لقبوا بالكردي لأن الشيخ ملا زين العابدين درس على شيخ كردي فنسب إليه، أي انهم أتراك وليس أكراداً ولكن النسبة لشيخهم الكردي.