في الذكرى الثانية والعشرين لرحيل مجاهد شعبان والذكرى مؤرقة

في الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الوالد، والذكرى مؤرقة

محمود نور الدين شعبان

تمضي الأيام والسنوات وقد تُنسى المصائب والمصاعب فترةً ولكنها تتجدد مع تجدد الأهوال التي تصيب بلاد المسلمين وخصوصًا بلاد الشام زهرة بلاد الإسلام.

ففي هذه الأيام التي خذلنا فيها القريب والبعيد والصديق والأريب تحل ذكرى رحيل السيد الوالد الحبيب محمد مجاهد بن محمود بن محمد شعبان الشافعي الحلبي النعيمي كما كان يحب أن يوقع أحيانًا.


وقد سبق لي أن كتبت شيئًا عن أيامه، ولكنني اليوم أستحضره في لحظات الشدة التي نفقده فيها، فقد كان رحمه الله حكيمًا ثابتًا في المواقف، لا يطيش عقله ولا يهتز قلبه مهما كانت صعوبة الحوادث، طبعًا يحزن ويتأثر ولكنه يبقى محافظًا على توازنه وتفكيره، ويبقى مبادرًا في تصرفاته وإدارته للمواقف حوله، وسأذكر بعض القصص التي رأيتها أو سمعتها من المقربين منه، فمن ذلك أنه سنة 1986 بعد انتهاء الأحداث الدموية بفترة قصيرة كان الوالد رحمه الله في رحلة إلى مزرعة جدي الحاج محمود شعبان، بصحبة شيخه القريب الحبيب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين رحمه الله، وكان يرافقهم الحاج ماهر حفظه الله في سيارته، ونظرًا لمحبة الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الشديدة للسلاح، فقد أخذ الأخ ماهر مسدسًا وبندقية تدريب معه ليرمي الشيخ بعض الطلقات، ولم تكن الأسلحة مرخصة، وفجأة أثناء الطريق ظهر أمامهم حاجز أمني يفتش السيارات في منطقة لم يُتوقع أن يكون فيها، فتحير الحاج ماهر ماذا يفعل؟ فقال الوالد له مباشرة: أعطني الأسلحة، فناوله إياها فأخفاها في عباءته وكان يلبس عباءة في الشتاء، وبقي محافظًا على رباطة جأشه ولم يتغير فيه شيء، وعندما أوقفهم الحاجز نظر العناصر فرأوا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين وكان ذا مهابة، فسمحوا لهم بالمرور دون تفتيش، فهذا موقف من مواقف سرعة بديهته وحُسن تصرفه في المواقف الصعبة.

ومرة كنا صغارًا نلعب في مكان قريب من مزرعة جدنا، فأشعلنا نارًا عظيمة مساءً في تلة من التبن، وبقرب المزرعة مركز البحوث العلمية التابع لجيش النظام، فجاء عناصر من المركز إلى النار وأرادوا أخذ الهوية الشخصية للوالد، ليراجعهم في اليوم التالي لأن الضابط المسؤول لم يكن موجودًا، فجادلهم الوالد بقوة ولم يرض أن يعطيهم هويته الشخصية، مع أن الناس في تلك الأيام والظروف كانوا يخافون من كل عنصر أمن ولو كان أصغر رتبة، ولم يعطهم ما أرداوا.

وقد حكى لنا قصة حدثت معهم في الفروع الأمنية عندما كان معتقلًا في دمشق، أن أحد السجناء زاره أهله وتركوا عنده صورة لطفلته، فكان السجين المسكين ينظر إلى الصورة كل يوم ويبكي، فيؤثر بكاؤه على السجناء في المهجع، فجاء إليه الوالد وقال له بأمر: أعطني الصورة، فتمنع الرجل، فقال الوالد: أعطني وإلا مزقتها، فأخرجها الرجل وسلمها إليه، فأخفاها الوالد عنده، وواساه وشدَّ من عضده ليصبر في محنته، وعندما نُقل إلى فرع آخر أعاد الصورة لصاحبها. فكان تصرفه هذا في السجن تخفيفًا عن بقية السجناء لما يلاقونه من ألم التأثر بفراق أحبابهم وليشد على قلوبهم.

وقد سمعته يعلم أحد أصدقاءه أنه إذا اعتقل ألا يجيب على أسئلة المحقق بجواب مباشر، بل بسؤال آخر، فإذا سئل: تعرف فلان؟ ردَّ: من فلان؟ وليس بنعم أو لا، حتى يربك المحقق، وقد ذكر لي بعض من كان معتقلاً معه أنه كان حاضر الذهن في أغلب المواقف حتى عند أشد حالات التعذيب والقهر والألم، وكان يرشد من حوله في السجن إذا احتاروا في تصرف أو فعل، ويواسي المعتقلين خصوصًا الجدد منهم ويصبرَّهم في سجنهم، ويذكِّرهم بالله وبمحن الأنبياء.

نعم، رأيته حزينًا شديد التأثر يوم وفاة جدي الشيخ عمر خياطة حموه، ويوم وفاة شيخيه عبد الرحمن زين العابدين والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ولكن كل ذلك لم يخرجه عن التحكم بتصرفاته وحتى إدارة المواقف التي حوله.

ولذلك عندما قامت ثورتنا المباركة في بلاد الشام سنة 2011 كنا نفتقده كل لحظة، ونفتقد شجاعته وحكمته في كل حادثة، وخصوصًا في هذه الأيام التي تواطأ فيها علينا القريب والبعيد، لينهوا ثورة الكرامة والحرية. فأكرر من أعماق قلبي قول الشاعر البطل الأسير أبي فراس الحمداني:

سيذكرني قومي إذا جدَّ جدّهم   **  وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

فحقًا أفتقد هذا البدر منذ اثنين وعشرين عامًا مضت، أفتقده في كل مواقف اشتد ظلامه واحتجنا فيه إلى بدر يضيء لنا الطريق المستقيم.

فاللهم أعل مقامه ومنزله واجمعنا به وبمشايخه وأحبابه في مكان لا همَّ فيه ولا غمَّ ولا حزن فيه ولا يأس اللهم آمين.