فَرَادة الداعية المفكّر محمد قطب...(2)

 

تتّسع مساحة البركة والثراء الفكري والغنى المعنوي في حياة المرء عندما يتعرّف على عظماء!

 

وأحسب أنه سبحانه تعالى أكرمني بصحبة ثلّة من هؤلاء، وفي مقدمتهم الشيخ عليّ الطنطاوي، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الرحمن الباني، ووالد زوجتي أم علاء – رحمها الله -: الشيخ أحمد رأفت زاده، والداعية الكبير محمد قطب... في آخرين كُثُر من أهل العلم والفكر والحكمة، والدعوة والقُدوة ... رحمهم الله جميعاً، وحقيقةً يَصْدُق فيهم بحسب معرفتي وعِشْرتي لهم قولُ الشاعر:

 

إذا سكتوا رأيتَ لهم جمالاً                     وإنْ نطقوا سمعتَ لهم عقولا

 

وإذا كان لكلٍّ منهم نكهةٌ، ومذاق روحي أو خُلُقي أو علمي أو فكري أو دعوي... إلا أنهم ينظِمُهُم جميعَهم "سِلْك" العظماء... والأستاذ محمد يتميَّز بفرادة هي: فَهْمُه الحركي للإسلام مع وعي عميق للواقع وثقافة غزيرة وذكاء فائق... وفرادتُه هذه: "نموذج" تشتدّ الحاجة إليه اليوم لتحقيق نجاحات جديدة نوعية على أيدي حَمَلةٍ صادقين، بَرَرةٍ جادّين، رحمه الله.

 

لقد تميّز رحمه الله بمؤهِّلات فائقة وهبها له الله عزّ وجلّ: على رأسها: الذكاء العالي والقدرات الفكرية والإنسانية والأدبية المتميّزة، والاعتزاز الشامخ بالإسلام وفهم دقيق لنبعَيْه الصافيَيْن ـ كتاب الله وسنّة نبيّه ـ منزِّلاً له ببراعة رائعة على واقعنا مبيّناً اعوجاجه وتِيْهَه، مع البيان الأدبي الواضح والسهل والمؤثّر ... بالإضافة إلى مؤهِّلات مكتسبة بالمجاهدة والدأب أرى أنَّ اللهنأ وفقه إليها، وأميَزُها: فهمُه العميق لدورِ الإسلام في قيادة البشرية وفي الريادة الحضارية ـ وعصارة هذا الفهم أودعها في كتبه الرائعة: ((كيف ندعو الناس))، و((مكانة التربية في العمل الإسلامي))، و((هَلُمّ نخرج من ظلمات التّيه))، و((من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر)) و((هذا هو الإسلام)) ـ ثم وضوحُ طريق الدعوة عنده ـ تماماً تماماً ـ مع استعداد كامل لمستلزمات سلوكها مهما كانت التضحيات طالما أن ثمرتها رضا الله سبحانه وتعالى ونهايتَها الجنة، وإلمامُه الدقيق بالواقع العالمي وموازين القُوى الدَّوْلية وتفاصيل المؤامرات ضد الإسلام، واستعلاؤه الشامخ بحُجج باهرة وعزّة شامخة على الواقع الجاهلي وطغاتِه بجرأة وحزم وعُمق مع اتساع معرفة وخبرة عميقة وثقافة متنوعة غزيرة... ومثال على كتبه الشاهدة على هذا التميّز الثقافي والعمق التحليلي: ((مذاهب فكرية معاصرة))، و((واقعنا المعاصر)) ـ ((المستشرقون والإسلام)) ـ ((العلمانيون والإسلام)) ـ ((صفحات من تاريخنا المعاصر)) ـ ((دروس من قصة فرعون في القرآن الكريم)) (والكتابان الأخيران لم يُطبعا وقد أعارنيهما رحمه الله مخطوطَيْن)...

 

ومع كل ما حباه الله به من صفات وَهْبية أو كسبية أرى أن جمال هذا النموذج وفَرَادته يكمن في ((ناطحة سحاب قِمّته الأخلاقية))... إنْ في دماثة خُلُقه أو طِيب معشره أو في تواضعه المُدهش الأخّاذ سواءً في التعامل والأدب أو حتى في الأفكار والآراء! وأذكر أنني استجمعتُ قوتي ـ ذات مرّة ـ لإقناعه بأنني معترض على ما يتكرّر في كتبه من إطلاق لفظ (التصوف) في سياق بيانه أنه أحد أهم أسباب انحراف الأمة ومنابع ضَعْفها! ومع أنني أشاركه في هذا الحِنْق ولكن على ((التصوّف المنحرف الخُرَافي المخدِّر)) لا على ((التصوف)) المبارك ـ الذي هو لبّ التزكية في إطار الهَدْي النبوي! ـ فاقترحت عليه رحمه الله أن يُقيّده بلفظ (المنحرف) فما رأيتُ أسهل من قَبوله لهذا الاقتراح!!!

 

جمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ                  بعد المماتِ جمالُ الكُتْب والسِّيَرِ