فخ اختزال الثورة

 

    لا يتنطحُ عنزانِ في أنّ من أهم طبائع الثورات اختلالُ النظم الاقتصادية والتأثير العميق على الأحوال المعيشية للنّاس، وانتشار الفقر والبطالة، وإذا كان النظام الذي ثار عليه الشعب هو نظام السفاح بشار الأسد فلا غرو أن نسمع بموت الناس جوعاً وحصار المناطق بشكلٍ يندى له جبين الزمان وتطأطئ الإنسانية رأسها خجلاً من هول ما يحصل.

ولكنّ هذا لا يمنع من التأكيد على حقيقةٍ أساسية يجب استذكارها دوماً، وهي أنَّ أسوأ ما قد يعتري القضايا العادلة هو تحوّلها من ثوراتٍ من أجل الجرية والكرامة؛ وجهادٍ ضدّ المحتلّ والمستبدّ إلى أزماتٍ إنسانيّةٍ غايةُ همّها لقمةُ الخبز، وكسوة الشتاء، ووقودِ التدفئة، وسلّة الغذاء، وإفطارات رمضان، وخيمة اللّجوء.

 

لن يستطيع أحدٌ من العاملين في الثورات الفرار من هذه الاستحقاقات المتعلقة بحياة النّاس ومعاشهم وجعلها في مرتبةٍ متقدِّمةٍ في سلّم الأولويات، ولكن مما ينبغي التنبيه إليه أنَّ العدو محتلاً كان أم مستبداً لا يألو جهدًا لإشغال الطرف الآخر في همومِ القضايا الإنسانية المعاشية بل وإغراقه فيها ليحقِّقَ من ذلك أمورًا عدة، أهمها:

 

محاولة اختزال قضايا الشعوب الباحثة عن حرّيتها وكرامتها واستقلالها في مطالب معيشية إغاثية بحيث يصبح همّ الشعوب دَفْعَ بعض الجوع وحَلَّ الحجرِ المربوطِ على البطنِ وإغلاقَ أفواه الصبية الجياعِ وبلسمةَ اليسيرِ من الجراح، وكم يسعدُ المجرمونَ عندما يتحوَّل هَمُّ أهل غزة من فتح المسجد الأقصى إلى فتح معبر رفح؟!! ويغدو مطمح الثوّار فتح ممرٍ إنساني إلى داريا أو مضايا أو دير الزّور وقد كانَ البصرُ متعلّقًا بأسوار دمشق؟!! 

 

وممَّا يتحقَّقُ للطّغاةِ والمحتلّين عندَ تسليط الضوء غيرِ الممنهجِ أو الممنهجِ بمكرٍ على هذه القضايا الإنسانية؛ أن يضعفَ وهج القضية الأم المتمثلة في البحث عن الحرية والكرامة والاستقلال، وتتحرك شعوب الأمة بعاطفةٍ جامحةٍ لإغاثة هذه المناطق المنكوبة والمحاصرة والمشرّدة وغياب الالتفات إلى الأعمال الثورية والجهادية التي توارَت خلفَ حجبِ الإعلامِ الذي أغفلَها بغباءٍ حينًا ودهاءٍ أحايين.

 

ومن أهم ما يحقّقه المجرمون أيضًا إيصال قناعاتٍ إلى العقل والوجدان الجمعي في البلاد التي تعاني الطغيان بأنَّ هذا البؤس والجوع ما هو إلا نتيجة الثورة والتمرد على الفراعنة وزبانيتهم، فلا يفكّرونَ في خلعِ رداء العبوديّة، وهنا يبدو الطغاةُ ملوكًا للإنسانيّةِ وأمراءَ للشهامةِ وهم يفتحونَ البابَ لبذل التبرعات لهؤلاء الذين سولت لهم أنفسهم أن يكسروا القيود، ولو أنهم أرادوا حقًّا إغاثة وإنقاذ هذه الشعوب المكلومة لفعلوا بأقل من هذه التكلفةِ من البؤسِ ودونَ هذه الاستعراضات الإنسانيّة البائسة.

 

وقد حرص النظام السوري على إيصال هذه الرسائل أيضًا بوقاحة بحيث يجعل الناس الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرته يقارنونَ حالهم بحالِ إخوانهم الرازحينَ خلفَ أسوارِ الجوعِ على بُعد أمتار منهم؛ فيحمدون الله تعالى على نعمة الاستبداد ويكفرون بالثورة والثوار؛ ففي دمشق مثلاً كان النظام يحرص على إقامة سوقٍ للخضروات والفواكه يرصف فيه ما لذَّ وطاب تحت جسر الزّاهرة حيث لم يكن هناك سوق أصلًا على بعد مرمى الصّرخة من عشرات يموتون من الجوع في مخيم اليرموك.

 

وهنا لا بدّ من إيجاد منهجيّةٍ في العمل الثوريّ في مختلفِ مؤسساته  لا سيما الإعلامية  منها للحيلولةِ دونَ انتقال القضايا العادلة المطالبة بالحرية والكرامة والاستقلال إلى مجرد قضايا إغاثة إنسانية، مع الحفاظ على الضغط الإعلامي وتفعيل العمل الإغاثي للتخفيف من وطأة هذه الأزمات الفتاكة، وهذا يحتاجُ إلى توازنٍ كبيرٍ يقومُ على بناءِ مؤسساتٍ تخصصية في كلّ مجالٍ؛ فكما أنَّ لدينا مؤسساتٍ إغاثيةٍ فإنه يجبُ أن يكونَ هناك مؤسسات عملها الحفاظُ على الثّورة وهويتها الأولى، وكما أنّ هناك حملاتٍ إعلاميّة لبيان الجانب المأساويّ الذي يعيشه النّاس جراء همجيةِ الفراعنةِ وزبانيتهم فإننا بحاجةٍ إلى حملاتٍ إعلامية تُظهر الجانبَ المشرق للثورة، وحالَ النّاس بعد أن ملكوا بعضًا من حريتهم وتُبرزُ كثيرًا من الإنجازاتِ التي حققها الثوار في الجوانب الإنسانية والمدنية وتُرسِّخُ كثيرًا كثيرًا من الصور المغيبة عن أفعال سامية وإنجازات راقية ورموزٍ مجهولين هي ثمرة الثورة ونتاجها.

 

إننا بحاجةٍ حقيقة إلى وضع آليّات واضحة للعمل عند بروز أيّة أزمةٍ إنسانيّة كحصار منطقة أو مجاعةٍ أو الموت بردًا أو غرقًا؛ آليات تقوم على استباق الحدث بحيث ننتقل من الانفعال بالموقف والانجرافِ مع الموجات الإعلامية بطريقة تفقدنا التوازن، ومع الحملات الإغاثية التي تخضع لهياج عاطفي تتحكم به الموجات الإعلامية مما يؤدي إلى تطفيفِ الميزانِ في جانبٍ وإخساره في جانبٍ آخر، لنمتلك بذلك زمام المبادرة والفعل بناءً على تخطيط مسبق قائم على وضوح في الرؤية وفهمٍ لمسارِ أيّة أزمةٍ صاعدةٍ وعدم فصلها عن الأزمةِ الأم في ضوء رؤية كليّةٍ راشدة. 

 

إنّ اختزال أيّة ثورةٍ سامية أو قضيّة عادلةٍ في الجانب الإغاثيّ والإنسانيّ الناتج عنها فخٌّ كبيرٌ قد يكونُ من صنع أيدينا، وبقاءُ جذوةُ الثورة متقدةً في نفوس أبنائها وأبناء الأمة يحتاج كثيرًا من الفهم والتعقل والفعل الرشيد لتبقى الثورة هي الثّورة بألقها الأوّل وشغفها الأول والاندفاع الأول للروح الوثابة في ميادينها.

 

#ترشيد_الثورة

#على_بصيرة

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين