فاذهب أنت وربّك فقاتلا

 

كيف وصلت الحال ببني إسرائيل إلى أن يخاطبوا نبيّهم موسى عليه والسلام بمثل هذه العبارة الوقحة التي تنمّ عن قلة أدب سافرة مع الله ورسوله إلى جانب خسة النفس والقعود عن تحرير الأرض المغتصبة ؟

 

إن ذلك الشعب- “المختار” كما يزعمون – حباه الله وأغدق عليه النعم المادية والمعنوية فأدّى ذلك إلى نتائج عكسية ، إذ أخلد إلى الأرض واعتمد على السماء في كل شيء ، ينتظر المعجزات لتتولّى إطعامه وسقيه وتحرير بلاده وحلّ مشكلاته ، واستقرّ الأمر إلى درجة الضمور الكامل للجانب الإنساني عند القوم.

 

فهذا الموقف المخزي من الجهاد لإخراج المغتصبين تتويج لسلسلة من المواقف السلبية المتوالية ، فقد تولىّ الله تعالى توفير الرزق لهم : ” وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا ” ، “وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى” ، فنبذوا كل مجهود ذاتي وتدلّلوا على الله ، بدل أن يزرعوا ويغرسوا ليأكلوا ما يشاؤون :”يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض”، وهذا اعتماد على الدعاء غير المباشر في مواطن الاعتماد على العمل مع الدعاء ، وعندما احتاجوا إلى الماء لم يحفروا الآبار وإنما طلبوا الماء عن طريق المعجزة : “وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشر عينا “، وقد تكرّر الأمر وبصورة أكثر وقاحة مع المسيح عليه السلام : ” يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء ؟”.

 

إن الربانية ليست بديلا عن الإنسانية بل تقتضيها حتما ، لذلك أوُكلت وظيفة الخلافة للإنسان وقوامها العمل الصالح المادي منه والمعنوي

 

وعندما قُتل فيهم قتيل لم يعمدوا إلى عملية التحقيق والتحرّي للكشف عن الجاني بل تقاعسوا حتى تدخّلت السماء مرة أخرى لتحلّ المشكلة بطريقة معجزة ، كما تدلّ على ذلك قصة البقرة : ” وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها ، فقلنا اضربوه ببعضها ، كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون “، لكن السلبية بلغت مداها عندما قعدوا عن القتال الشرعي ورفضوا السعي إلى تحرير أرضهم المحتلّة وأوكلوا المهمة إلى السماء رغم إلحاح نبيّهم عليهم واستنهاض بع الصالحين لهمَمِهم :” قالوا يا موسى إنّا  لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون “.

 

بسبب هذه السلبية القاتلة نُزعت من بني إسرائيل القيادة الأدبية والحضارية وسرت عليهم السنن الاجتماعية الماضية فدارت عليهم الدوائر وأصابهم الفقر والذلّ والتمزّق والهوان ، وهذا مصير حتمي لمن يقعد عن بذل الجهد ووضع الخطط والكدّ والانخراط في الدورة الطبيعية للحياة ويحيل مشكلاته المعيشية على العناية الإلهية متناسيا أن الإنسان هو المكلف ، فإذا كان مؤمنا صاحبَ وحي ورسالة كان التكليف أعظم وأبين .

 

إن السلبية ليست خصيصة يهودية لكنها صفة قد تلتصق بأي قوم أساؤوا فهم العلاقة بين الإنسان والسماء وبين الإنسان والكون فضمرت قدراتهم الذاتية فأعرضوا عن الإيجابية والمبادرة وتفجير الطاقات من أجل عمارة الأرض

 

إن الربانية ليست بديلا عن الإنسانية بل تقتضيها حتما ، لذلك أوُكلت وظيفة الخلافة للإنسان ، وقوامها العمل الصالح المادي منه والمعنوي ، أي أن حياة الإنسان محكومة بمعيار بذل الجهد وإفراغ الوسع ، أما المعجزة فإنها استثناء يؤيَّد به صاحب الرسالة وليس وسيلة لإقامة الحياة الدنيا ، فإذا درج المؤمنون على الاعتماد عليها بدل حشد الطاقات الإنسانية كما يأمر الوحي نفسه فإنهم ينالون جزاء المتقاعس الضعيف المنسحب من معترك الحياة المتواكل المغترّ .

 

إنّ السلبية ليست خصيصة يهودية – بل قد تخلص منها اليهود عبر العصور- لكنها صفة قد تلتصق بأي قوم أساؤوا فهم العلاقة بين الإنسان والسماء وبين الإنسان والكون فضمرت قدراتهم الذاتية فأعرضوا عن الإيجابية والمبادرة وتفجير الطاقات من أجل عمارة الأرض وأداء مهام الخلافة في مجالات الاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات البشرية مع اهتداء دائم بالوحي المنزّل ، وإن المسلمين قد أصابهم في زمن الضعف ما أصاب بني إسرائيل قديما وإن اختلفت الصور والأشكال ، حتى وُجد فيهم من يظنّ أن النفط مثلا نوع من المنّ والسلوى أي عطاء علوي يُغني عن العمل والسعي ، لذلك حلّت بنا  أزمات تلازمت فيها الضائقة الاقتصادية وضياع الحرمات وتغلّب العدو الغاضب ، ولن تحلّ المشكلة إلا بتطليق السلبية وتفتيق الطاقات الإنسانية المبدعة بهدي من الوحي الرباني.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين