غزة المحنة والمنحة


د. هاني إسماعيل محمد*
 
ليس من رأي كمن سمع، فاق الواقع كل التصورات في غزة، ما كنت أظن أن هذا القطاع المحاصر جوا وبرا وبحرا منذ نجاح حماس في الانتخابات وتوليها السلطة أن يكون بهذه الروح المعنوية العالية، والإرادة القوية، هذا القطاع الذي تكالبت عليه الدول الغربية وخذلته الدول العربية فانبهرت عندما رأيت غزة وهي تفوح بروح القرآن وريحانه، وقد امتلأت إيمانا راسخا وعزيمة صادقة، ذهبنا مجموعة أكثر من 200 خطيب وادعية في قافلة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لغزة لإلقاء خطبة الجمعة في مساجدها فأجمعنا الحديث على أنه ما دخل منا خطيب إلا ووجد المسجد مكتظا بالمصلين وعمار المساجد بالرغم من أن المساجد واسعة وكبيرة تسع آلاف المصلين لا مئاتهم.
 
وعلى جانب آخر وعلى مدار يومين كاملين وأكثر انتقلنا فيهما من جنوب غزة إلى شمالها مرورا بوسطها، وتجولنا في شوراعها ونواديها؛ لم نرَ فتاة واحدة متبرجة، بالرغم من كثرة الفتيات ونشاطهن الدءوب.
 
التقينا المصابين والجرحى لرفع معناويتهم فرفعوا معناويتنا، رأينا شابا فقد في حرب الفرقان ـ حرب غزة 2009 ـ رجليه ويده اليسرى وإصبعين من يده اليمنى، فهو حقا كتلة لحم على عجلة متحركة، يحكي كيف فقد أعضاءه في القذف، وكيف شفاه الله فعاد ليعمل مع القسام مرة ثانية، ويكمل دراسته ويحصل على الثانوية العامة، ويلتحق بالجامعة ويتزوج وينجب كل هذا بعد إصابته، ثم يضيف ويقول الإعاقة ليست إعاقة البدن، بل هي إعاقة الإرادة.
 
ذهبنا إلى المرابطين لندعوه للثبات والتضحية، فعلمونا معنى الثبات والتضحية، أول ما رأيت على الثغور ذلك الرجل الأربعيني الذي كان يقدم برنامج المصابين والجرحى وهو يلبس الزي العسكري، فقلت له أنت بالنهار ملكي بليل عسكري فتبسم وقال كل المرابطين هكذا يعملون في النهار في عملهم الرسمي، وبالليل يتطوعون للدفاع عن الوطن، ولقد أقسم لنا إسماعيل هنية رئيس الوزراء الفلسطيني أنه مازال يرابط مثله مثل غيره.
 
قابلنا الشباب لنؤكد لهم على أن النصر قادم يقينا بالله وثقة في وعده، فابتسموا وقالوا لقد صمدنا في حرب الفرقان، وهزمناهم في حجارة السجيل، والآن شعارنا "ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ" فبيننا وبين تحرير الأقصى والقدس قاب قوسين أو أدنى.
 
عدت من هناك وأنا أردد ابن المبارك:
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتْـَنا ... لعلمتَ أنَّكَ في العبادةِ تلعبُ
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه ... فنحورنُـا بدمـائِنا تَتَخْضَبُ
أوكان يتعبُ خيله في بـاطل ... فخيـولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريحُ العبيرٍ لكم ونحنُ عبيرُنا ... رَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقد أتـانا مـن مقالِ نبيِنا ... قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يَكذبُ
لا يستوي غبـارُ أهلِ الله في ... أنفِ أمرئٍ ودخانُ نارٍ تَلهبُ
هذا كتابُ الله ينـطقُ بيننا ... ليسَ الشهيدُ بميـتٍ لا يكذبُ
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين