عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالسائلين عن العلم
بقلم الدكتور: عبد الحكيم الأنيس
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة، وأتم التسليم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:
فقد كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من (السائلين) عن العلم، الراغبين بتحصيله، الساعين إلى معرفته، مواقف رائعةٌ تتجلى في صور متعددة ، حريٌّ بنا الوقوف عندها، والتبصُّر بها، والإفادة منها، وتذكير أنفسنا بما احتوته من دروس عالية، وفوائد عالية، وهي كلها تصبّ في التنبيه على قيمة العلم الشرعي، وضرورة الاحتفاء بمن يسعى إلى تحصيل هذا العلم، وتشجيعه وتكريمه والاهتمام به.
1ـ فمن هذه الصور : التعبير عن ذلك بالقول وتكراره:
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قبل غزوة تبوك، فلما أن أصبح صلَّى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا ، فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على أثر الدُّلجة ، ولزم معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو أثره..."
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عن قناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجل أدنى إليه من معاذ، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، قال : لبيك يا نبيَّ الله ، قال: ادنُ، دونك، فدنا منه حتى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أحسب الناس منا كمكانهم من البعد ، فقال معاذ: يا نبي الله نعس الناس فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا كنت ناعساً.
فلما رأى معاذ بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وخلوته له، قال: يا رسول الله ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :" سلني عمَّ شئت . قال: يا نبي الله ، حدثني بعمل يُدخلني الجنة لا أسأل عن شيء غيرها.
قال نبيُّ الله : بخ بخ بخ ، لقد سألت عن عظيم، لقد سألت عن عظيم، لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من أراد الله به الخير ،وإنه ليسير على من أراد الله به الخير، وإنه ليسير على من أراد الله به الخير، فلم يحدِّثه بشيء إلا قاله ثلاث مرات ـ يعني أعاده ثلاث مرات ـ حرصاً لكيما يتقنه.
فقال نبي الله : تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتقيم الصَّلاة، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً حتى تموت وأنت على ذلك.
فقال نبي الله: أعد لي، فأعادها ثلاث مرات.
ثم قال نبي الله: إن شئت حدثتك يا معاذ برأس هذا الأمر، وقوام هذا الأمر، وذروة السنام، فقال معاذ: بلى بأبي وأمي أنت يا نبي الله فحدثني.
فقال نبي الله : إنَّ رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأن محمداً عبده ورسوله.
وإنَّ قوام هذا الأمر إقام الصَّلاة وإيتاء الزكاة.
وإنَّ ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله.
إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله عزّ وجل ..."
ونلحظ في هذا الحديث رضى النبي صلى الله عليه وسلم وإعجابه بالسائل والسؤال من قوله:" بخ" وما بعده ،وقد ظهر هذا الرضى والإعجاب أيضاً في تكرار قوله : " بخ" وقوله: " لقد سألت عن عظيم" وقوله:" وإنه ليسير على من أراد الله به الخير".
2ـ ومن هذه الصور: التعبير بحركات الوجه إضافة إلى القول:
أ ـ فعن أبي أيوب رضي الله عنه " أن أعرابياً عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: " يا رسول الله أو يا محمد، أخبرني بما يقرِّبني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكفَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نظر في أصحابه ، ثم قال: لقد وُفِّق أو لقد هُدي. قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصَّلاة، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم، دع الناقة".
وفي سكوت النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً، ثم نظره في أصحابه ، ثم استعادته السؤال: تعبيرٌ واضحٌ عن اهتمامه بالسائل والسؤال، ولفتُ نظر الصحابة إلى أهمية هذا الأمر، وتعليم لهم ولنا أن نولي طالب العلم كلَّ اهتمام وتقدير.
ب ـ وعن المغيرة بن عبد الله اليشكري أن أباه حدَّثه قال: " انطلقت إلى الكوفة فدخلت المسجد ، فإذا رجل من قيس يقال له ابن المنتفق ، وهو يقول: وُصِفَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبته، فلقيته بعرفات، فزاحمت عليه ، فقيل لي: إليك عنه، فقال: دعوا الرجل ، أرََبٌ ماله ، قال: فزاحمتُ عليه حتى خلصت إليه فأخذت بخطام راحلته فما غِيرَ عليَّ ـ ثم قلت ـ : شيئين أسألك عنهما : ما ينجيني من النار؟ وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر إلى السماء، ثم أقبل بوجهه الكريم فقال: لئن كنت أوجزت المسألة لقد أعظمت وطوَّلت ، فاعقل عليَّ: اعبد الله لا تشرك به شيئاً، وأقم الصَّلاة المكتوبة، وأدِّ الزكاة المفروضة، وصم رمضان".
ونجد هنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء، ثم أقبل بوجهه الكريم على السائل، وأثنى عليه في حُسن سؤاله مبنى ومعنى، فهو قد أوجز كلمات السؤال، ولكنه أتى بموضوع عظيم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أعقل علي" ليزيده اهتماماً وشوقاً.
وهذا يصور عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالساعين إلى العلم أتم تصوير.
3ـ ومنها: التعبير عن العناية والرضى والإعجاب بالدفاع عن السائل المتعلم:
فعن عبد الله بن عمرو قال:" ... وقام آخر فقال : يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة، أخلق يخلق أم نسج يُنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّ تضحكون ؟ من جاهل يسأل عالماً ؟ أين السائل؟ قال: أنا ذا يا رسول الله. قال: تنشق عنها ثمار الجنة".
وفي هذا الحديث درسٌ بالغ الأثر، تتجلى فيه منزلة طالب العلم عند النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته ، فهو يحميه من أي احتمال انتقاص أو ازدراء، ويدافع عنه ، ويعلِّم الآخرين أن السائل جدير بالتقدير لا التكدير، حقيق بإجابة سؤاله وتحقيق آماله، وليس فيما يؤول من الأسئلة إلى معرفة ما يهم المسلم من أمر دينه ودنياه وآخرته سؤال يُطْرَحُ أمرُهْ أو يُقْدَحُ فيه.
4ـ ومنها: التعبير عن هذا بالوصية بطلاب العلم:
ومن المشهور في هذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرويه أبو هارون العبدي، وشهر بن حوشب، ولرواية العبدي ألفاظ:
أ ـ فعند ابن ماجه:" سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحباً مرحباً بوصيَّة رسول الله ، وأقنُوهم" ( أي : علِّموهم).
ب ـ وعند الخطيب البغدادي:" سيأتيكم شبابٌ من أقطار الأرض يطلبون الحديث، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيراً".
5ـ ومنها: إظهار السرور والبشاشة بوجه السائل:
فعن أبي مالك الأشعري قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته أقبل على الناس فقال: إنَّ لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله".
فجثى رجل من الأعراب فقال: يا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم انْعَتْهم لنا، حلِّهم لنا، شكِّلهم لنا.
فَسُرَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسؤال الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحامٌ متقاربة ، تحابوا في الله، وتصافوا بصفو الله، لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نوراً ،وثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون ،وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
وفي سرور النبيَّ صلى الله عليه وسلم درسٌ بالغ الأثر للمعلمين والمربين أن يلتفتوا إلى طالبي العلم، ويشجِّعوهم ويفتحوا لهم قلوبهم، ويمنحوهم كل اهتمام وتقدير.
6ـ ومنها: الثناء على السائل المتعلم وتشجيعه وتشجيع غيره على السؤال:
أ ـ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث.
أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه".
ولنا أن نتخيَّل سعادة أبي هريرة وهو يسمع كلمات الثناء العاطرة هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نتخيل أثرها في قلبه ونفسه، وتشجيعها له على المثابرة والمبادرة، ودوام الحرص والاهتمام.
إنَّ كلمات التشجيع تقدح العزائم الساكنة، وتوقظ المواهب الكامنة،وترفع درجات الاستعداد لدى المتلقِّي رفعاً كبيراً ، وعلى عكس هذا كلمات التحبيط والتهميش و التخذيل فإنها تميت الروح ، وتصرف التوجُّه،وتقتل الطموح، وكم فقد العلم من الأكفاء بسبب كلمة ظالمة غير مسؤولة قالها صاحبها بجهل أو تجاهل،وكانت سبباً من أسباب تأخر نهضة العلم ورفعته.
ب ـ وروي عن أسماء بنت يزيد بن السكن ـ وكانت من ذوات العقل والدين ـ أنها أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إني رسولُ مَنْ ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهنَّ يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إنَّ الله بعثك إلى الرجال والنساء ، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات ، قواعد بيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد ، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم ،أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه فقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها من هذه ؟ فقالوا: بلى يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انصرفي يا أسماء ،وأعلمي مَنْ وَرَاَءَكِ من النساء، أن حُسْن تبعُّل إحداكنَّ لزوجها ،وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته، يعدل كلَّ ما ذكرت للرجال.
فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر، استبشاراً بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وما قلناه عن سعادة أبي هريرة بكلمات الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال هنا عن أسماء التي حظيت منه صلى الله عليه وسلم بوسام رفيع، لحُسْن سؤالها، وتأتيها إلى المقصود، واهتمامها واهتمام من وراءها بالعلم الشرعي.
7ـ ومنها: التعبير بالفعل وسرعة الإجابة:
فعن رفاعة العدوي رضي الله عنه قال:" انتهيتُ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: فقلت : يا رسول الله رجلٌ غريب جاء يسأل عن دينه ، لا يدري ما دينه. قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ، فأتى بكرسي حسبت قوائمه حديداً.
قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله. ثم أتى خطبته فأتم آخرها".
فاشتغال النبي صلى الله عليه وسلم بالخطبة العامة لم يمنعه من سرعة إجابة هذا الغريب السائل الذي جاء يسأل عن دينه.
وفي هذا تنبيه للمعلمين أن يبادروا إلى إجابة السائلين عن الدين، وأن يخصُّوهم بعنايتهم واهتمامهم.
8ـ ومن الصور: اشتغاله صلى الله عليه وسلم بإجابة السؤال ولو اقتضى ذلك زمنا:
فعن بريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً سأله عن وقت الصَّلاة ، فقال له: صلِّ معنا هذين، يعني اليومين.
فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر،ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر.
فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر ،فأبرد بها فأنعم أن يبرد بها، وصلَّى العصر والشمس مرتفعة ، أخَّرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء ، بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها.
ثم قال: أين السائل عن وقت الصَّلاة ، فقال : أنا يا رسول الله ، قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم".
وهذه صورة جميلة يظهر فيها حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم السائل ، بحيث يبقى يومين وهو مهتم به، ذاكر له ، ويجيبه على ما سأل عملياً، وهو أقوى من القول وأرسخ.
9ـ ومنها: توليه إجابة السائل بنفسه، وعدم وَكْله إلى غيره على كثرة أشغاله ومهماته:
ففي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه، فأدخل إصبعيه السبَّاحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، وبالسبَّاحتين باطن إذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص، فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء".
وبعد: فهذه صور ـ والبحث يكشف المزيد ـ ترينا بجلاء اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالسائلين عن العلم، وإقباله عليهم، وانصرافه إليهم.
وهذه الصور تدلنا على جانب من جوانب البلاغ والإبلاغ التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي يراد من الأمة الاقتداء والتأسي بها، لإيصال الحق والحقيقة إلى كل قلب.
وإذا كان على الأمة أن تُبادر إلى تبليغ الدين للمقبلين والمدبرين ، فإن عليها أن تكون مبادرتها إلى المقبلين الراغبين أسرع. ونسأل الله الإخلاص والقبول.
مجلة الأحمدية العدد التاسع عشر
المحرم 1426=فبراير2005
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول