علي عزت بيجوفيتش.. رجل لا يطويه النسيان

      

 

كل ثورة حقيقية تتميز بسمات معينة تشتمل على الإيمان والرغبة العارمة في التضحية والموت، كل هذه المشاعر أبعد ما تكون عن المصلحة.   (علي عزت بيجوفيتش)

قبل أيام معدودات دار الزمن دورته وأعاد علينا ذكرى رحيل المفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش، أول رئيس للبوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب الطاحنة فيها، وهذه الذكرى تدعونا إلى قراءة حياة الرجل التي أمضاها في سيبل نشر الإسلام ونهضة المسلمين وعزتهم، وإلى استعراض المواقف المشرقة التي صنعها، ودراسة الأفكار التي ضمنها كتبه وجعلته مفكرا إسلاميا له حضوره في بلده وفي العالم. وليس المقصود من ذلك العودة إلى الوراء أو العيش في كهوف الذكرى التي ترتاح فيها العقول النائمة، وليس المقصود التفاخر برجل قلّ مثيله في هذه الحقبة الصعبة، وإنما المراد الانطلاق من جديد من حيث انتهى بيجوفيتش رجل الفكر والسياسة.

بدأ بيجوفيتش مسيرته في العاصمة الجريحة (سراييفو)، درس فيها وتخرج في جامعتها باختصاص القانون عام 1950م، ثم حصل على شهادة الدكتوراة عام 1962م، وكان له دور _وهو في السادسة عشرة من عمره_ في تأسيس جمعية (الشبان المسلمين) التي عملت في التوعية بالقضايا السياسية والمجتمعية، وركزت على جوهر الإسلام، وواجهت الشيوعية والمادية وأعلت من القيم الروحية السامية، وبرز دورها الكبير خلال الحرب العالمية الثانية إذ قامت بتقديم المساعدات الإنسانية للاجئين والمتضررين من الحرب.

وقد مر بيجوفيتش بمراحل قاسية طيلة أيام حياته، فتعرض للاتهامات الكثيرة، واصطدم بالصرب الحاقدين على المسلمين، وبالشيوعيين الذين كانت لهم قدم راسخة في دولة تتبنى الفكر الشيوعي الإلحادي، فدفع علي عزت ثمن موقفه الجريء وكلمة الحق التي صدح بها، فانتهى إلى السجن، كما انتهى إليه سلفه من قبل، وخلفه من بعد!

وخلف القضبان وفي عتمات السجون استطاع علي عزت أن يجعل من المكان الموحش مستراحا يخط فيه للأجيال القادمة حصيلة تجاربه وأفكاره النهضوية، إذ ألف كتابه (الهروب إلى الحرية).

اهتم بيجوفيتش طوال مسيرته الجهادية بتبيان طبيعة المشروع الإسلامي ونظمه وأبعاده، وتكلم على النهضة الإسلامية وسبلها وعوائقها وعوامل البناء الصحيح، وأراد أن يكسر الحاجز بين الشرق والغرب كما جاء في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) وأوضح الفروق بين النظرتين المادية المحضة والدينية المجردة وبين النظرة الإسلامية التي توازن بين الروح والجسد.

وتظهر عبقرية الرجل وعمق تفكيره في جميع مؤلفاته، تأمل معي في تفسيره سبب العداء الغربي تجاه المسلمين، فقد أرجع ذلك في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) إلى سببين رئيسين: أحادية النظرة التي تسيطر على العقل الأوروبي، وعدم قدرة اللغات الأوروبية على فهم المصطلحات الإسلامية ومعرفة مقصودها.

استطاع علي عزت بيجوفيتش أن يجمع بين السياسة والفكر والعمل والوعي بمختلف التيارات الفكرية الشرقية والغربية، ولذلك تميزت كتاباته بالعمق والوضوح وقوة التحليل.

وبعد..

هذه سطور صغيرة تتكلم على رجل له أثر كبير في أمته، وإضاءة تقدمها حبر لقرائها الذين يدركون أهمية رجال الفكر والتغيير.