علمُ الله تعالى كاشفٌ وليس بمُجبر

الإنسان حرٌ مكلف مختار

جاءني هذا السؤال :

بم ترد على من يقول أن الهداية والضلال بيد الله تعالى والانسان مقدر له من قبل ان يخلق مصيره إن كان على الايمان او الكفر فكيف يحاسب الله من كتب عليه الكفر

#الجواب :

للإجابة على هذا السؤال لابد من هذه المقدمات الأربعة :

1- المقدِّمة الأولى: أنَّ الله سبحانه وتعالى متَّصفٌ بالعدلِ والحكمة، فلا يُمكنُ أن يصدر عن الله ظلمٌ أو عبثيَّة، وكلُّ ما قدَّر الله تعالى فهو العدلُ المطلق، وكلُّ ما كتبه ففيه الحكمة البَالغة، وقد ذكرَ الله ذلك عن نفسه مرارًا فقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]

2- المقدمة الثانية: أنَّ الله سُبحانه وتعالى متصفٌ بالعلم المُطلق، وهذه المقدمة من المقتضياتِ الضَّرورية لاتِّصاف الله بصفة الخلق، فإنَّه لا يمكنُ انفصالُ علمِ اللهِ عن خلقه، فما دامَ أنَّه خالقُ الكون فإنَّه بالضَّرورة سيكونُ عالِمًا بما خَلَق، وقد ذكرَ الله في كتابِهِ سعةَ علمِه فقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59]

فكلُّ مَخلوقٍ لا بُدَّ وأنَّ الله قد علِم كل ما يتعلَّق به، والإنسانُ وأفعالُه لا يمكنُ أن تخرج عن هذهِ الكلِّية، إذ إنَّهُ جزءٌ من الكونِ المخلوق المدبَّر، فنَعرف مِن هَذا أنَّ الله يعلَمُ ما سيفعلُه الإنسان ضرورةً؛ وذلك لأنَّه من جُملة الأَحداث، وقد كَتَبَ الله سبحانَهُ وتعالى ما علِمَهُ ممَّا هو كائنٌ إلى يومِ القيَامَة، كما في الحديث الذي أخرجهُ مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَتَبَ الله مقاديرَ الخَلائق قبلَ أن يخلُقَ السَّموات والأرض بخمسين ألفَ سنة»

3- المقدِّمة الثالثة: أنَّ الله قد بيَّن لجميعِ الناس السَّبيلَيْن، وهداهُمُ النَّجدَين، فَالله سُبحانَه وتعالى من تمامِ عدلِهِ أنَّه لا يُعذِّبُ أحدًا لم تبلُغه الحجَّة، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولذلكَ أرسَلَ اللهُ الرُّسل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وفي ذلِكَ يقولُ الله سُبحانَه وتعَالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، أي بيّن الله للإنسان الخير والشر

وهذِهِ الأدلَّة تبيِّن أن الله سبحانه وتعالى قد هدى الناسَ كلَّهم هدايةَ دلالةٍ وإرشاد، فبيَّن لهم طريق الخير وما تؤول إليه، وطريق الشرِّ وما تؤول إليه، فإنَّه سبحانه قد بيَّن أتمَّ بيان، وأرسلَ الرُّسل ليبلِّغ عنه دينَهُ وأوامرَه ونواهيَه، وقبلَ ذلكَ أقامَ الحُجج العقليَّة والضَّرورات النَّفسيَّة، ثمَّ قبلَ أن يؤاخِذَ أحدًا بذنبِه بيَّن له وعلَّمَه وأرشدَه؛ ولذلِكَ قطعَ اللهُ الطَّريق على كلِّ من حَاوَلَ أن يعترضَ على الله، فَحَكى اللهُ قولَهم: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 56-58]، ثم كان الجواب: {بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59].

4- المقدمة الرابعة: الإنسانُ مختارٌ مُريد، وهذه المقدِّمة من أهمِّ ما يهدِم مذهبَ الجبر وينقض بنيانَه، فالإرادة الحرَّة والاختيار لا يمكن أن تلتقيَ بالجبرِ في طريق، فهيَ مبنيَّة على أصلٍ وجودي ضروري حسِّي، فالله سُبحانه قد أعطى كلَّ إنسان حريَّة وإرادةً واختيارًا، والإنسانُ يشعرُ شعورًا اضطراريًّا بأنَّه حرٌّ مختارٌ مُريد، فمن جلس يمكنه أن يقومَ، ويمكنه أن يضطجع، ويمكنه أن يستمرَّ جالسًا، لا يشعُرُ من نفسِه أنَّه مجبرٌ على فعلِ واحدٍ من هذه الخيارات، ومتى ما أرادَ الإنسانُ أن يُحرِّكَ يدَهُ أو رأسَهُ فَعَلَ ذلكَ دونَ أن يشعر أنَّه مُجبرٌ على اختيارٍ محدَّد؛ ولذلك تُقسم الحركات إلى حركاتٍ لا إراديَّة كالرّعشة والسُّقوط المفاجئ وغيرها، وإلى حركاتٍ إرادية كالأكل والشُّرب والمشي والقراءَة وغيرها، والإنسان يُمدحُ ويُذمُّ على أفعاله الإرادية، بل لا تترتَّب الآثار القانونية إلَّا على النَّوع الثَّاني، ولو ساوى الناس بين النوعين لبطلت قوانينُ التَّحاكم البشري.

وقد أثبتَ الله في كتابِهِ الإرادَةَ

فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، إلى غير ذلك من الأدلَّة التي تُفيد هذا المعنى، فكما أنَّ زواجَ الإنسان باختياره، وأكلَه باختياره، وشربَهُ باختيارِه، فكذلكَ طاعته باختياره، ومعصيته باختيارِه، وهو ليس مجبرًا عليها .

فهذه المقدِّمات الأربعة واضحةٌ جليَّةٌ في أنَّ كتابة الله سبحانه وتعالى أفعالَ العباد ليس جبرًا لهُم، فإن كانَ اللهُ سبحانه كاملًا في عدله وحكمته، وعلم كل ما يفعله العباد فكتبه بناءً على علمه، ثمَّ بيَّن للنَّاس الخيرَ والشَّر، ورزَقَهُم الإرادة والاختيار، فإنَّ ما يفعله العبد بعد ذلك ليس جبرًا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه متعلق بإرادته واختياره، وثوابه وعقابه على أفعالِ العبد ليسَ منافيًا للعدل الإلهي؛ لأنه مبنيٌّ على علمِه .

فالإنسان هو الذي اختار طريق الضلالة او الهداية في حياته وقد علمَ اللهُ باختياره ، فقدر له ذلك .

وأضرب على ذلك مثلا :

لو أنَّ معلمًا -ولله المثلُ الأعلى- علِمَ من خلالِ تدريسِه أنَّ فلانًا سينجحُ بتقدير: ممتاز، والآخر سينجَحُ بتقدير: جيِّد جدًا، و الثالث سيرسُب، ثمَّ كتب ذلك في ورقةٍ عنده، ثمَّ ظهرت نتائج الثلاثة على ما كتبه المعلم، فهل يحقُّ للطلاب أن يعترضوا بأن تلك الكتابة كانت إجبارًا لهم على حصول ذلكَ التقدير؟! وهل يحقُّ للطالب الراسب أن يحتجَّ على معلِّمه بأنه لو لم يكتب ذلك لما رسب؟!

يُدرك الجميع أن هذه الكتابة ليس جبرًا لأحد، وإنما هي مبنية على علم، وهو علمٌ قاصرٌ محدود، فكيف بعِلمِ الله الذي يعلم السر وأخفى؟!

فكما أن كتابة هذا المعلم ليست جبرًا لأحدٍ من الطُّلاب، فكذلك كتابة الله ليست جبرًا لأحد، فالله قد أعطى الإنسانَ عقلًا وإدراكًا، ثم بيَّن له الخير والشر، والنافع من الضَّار، فيدرك الأنفع منهما بما وهبه من عقلٍ وإدراك، ثم وهبَهُ الله اختيارًا وإرادةً يستطيع بهما أن يسلك أي السبيلين شاء {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الإنسان: 3]، وحسب اختيارِ العبد يجازيه الله، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فالثَّواب والعقاب مبنيٌّ على اختيار الإنسان بعد بيان الحقِّ له، لا على علمِ الله سبحانه وتعالى وكتابته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين