عبقرية محمد الغزالي رحمه الله

التقديم للبحث:

اللهم ارحم عبدك محمد الغزالي، واجزه خير الجزاء عما غار لدينك وحمِي لشرعك، واحتمل وكتب، وعانى ونصب ووقف وواجه..

اللهم واجعل كتبه وأعماله ومواقفه وآراء محبيه فيه شفاعة له يوم القيامة اللهم واجعل ميتته كرًّا على المبطلين وإعلاء لراية الدين، وجهادا حتى آخر نفس في الأولين. اللهم واجعل مدفنه روضة من رياض الجنان، وشهادة له يوم تلقى الصحف بالشمائل والأيمان، وعلو كعب في العلماء المرضيين اللهم آمين..

فإني حين أكتب عن عبقرية الغزالي رحمه الله الذي سبق وتفرد، وكان للأمة كالنذير العريان منتبها أكثر من سواه لمواطن الخطل والزلل، حاملا مشعل التنوير، رافضا للظلم والقهر والتحرير، مستعصيا على الانكسار والانحناء حين أكتب عنه فإني فيه لست متعصبا، أو ملقيا للكلام دون تثبت، ولا تأمل.

كما أنني لست صاحب هوى فيه بل كنت في بداياتي ثانيا عنه شموسا عن منهجه؛ بسبب حدة لحظتها في بدايات معرفتي به في كلامه إذا تكلم، وكتابته إذا كتب - وكنت آنذاك شابا مضغوطاً كغيري من الشباب بالإزعاجات الأمنية وسخافات المخبرين غير المبررة، والشبان لا تعجبهم الحدة، ولا ينصاعون ييسر للشدة - وخصوصا بعد أن نشرت مجلة العربي أوائل الثمانينيات ملفا عن التطرف، شارك فيه نخبة مختلطة من العلماء والمفكرين الغزالي والقرضاوي والبشري، وعمارة وفهمي هويدي وفؤاد زكريا، ولم يعتبر بعض الشباب هذا الملف - تسرعا - تشخيصا للداء؛ بل زيادة في البلاء، وصبا للزيت على النار؛ حيث إن المؤامرة على الشباب المسلم كانت ثقيلة باهظة مكرثة ومحيرة.

وقد كان الشيخ رحمه الله في حدثه شاباً رغم مناهزته الثمانين، ومن طبيعة الشباب الانفعال، وبعض الخشونة وهي خلة لم تفارقه رحمه الله في أطوار حياته، حتى إنني شكوت ذلك ذات مرة لوالدي وشيخي الفذ الدكتور عبد العظيم الديب عليه رحمات الله ورضوانه - وقد كنت أجرؤ عليه ما لا أجرؤ على غيره - فانفعل رحمه الله وقال: كيف يلومكم معاشر الشباب؟ ألا يذكر ما كان يفعل في شبابه؟ ألا يذكر أنه كان أشد انفعالا، وأحد حالا؟! سامحه الله ثم كان بعد يطيب خاطري بكلام رفيق، يضع الشيخ فيه في منزلته، ويلفتني إلى حجمي وحالي.

وشكوته مرة للرجل الهامة الجليل صلاح أبو إسماعيل، فضحك ضحكته النقية، وقال ليمتص حدتي وحزني: أقول لك نكتة على صاحبك، وأضحكني ثم تكلم عن الشيخ بما يليق بمثله عن مثله، رحمهما الله رحمة واسعة..

ثم أراد الله تبارك وتعالى أن أقترب من الشيخ، وأسمع له، وأقرأ، وأراه، وأجالسه، وأجاوره للصحافة وللتلفزيون وأزوره في بيته بالقاهرة، وفي مقره بفندق الواحة حيث ينزل كل زيارة للدوحة، التي كانت تحتفي به احتفاء يليق به، فانضبطت النظرة واعتدلت الفكرة، خصوصا بعدما رأيت من ثناء شيوخي الأجلة العلامة يوسف القرضاوي والحيي عبد العظيم الديب، والرباني حسن عيسى عبد الظاهر، وصلاح أبو إسماعيل، وعبد القادر العماري وغيرهم رحمهم الله تعالى حيهم وميتهم.. ولمست ما له من مكانة في القلوب، وأثر في الدعوة، وجهاد طويل خاصة بقلبه وعقله ولسانه يحدوه الصدق والغيرة والحب المفرط للإسلام ونبيه العظيم صلى الله عليه وسلم. أحسبه والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى ولا أحدا!

عرفته إذن من أربعين سنة منذ رأيته في المدينة المنورة في المؤتمر العالمي الأول للدعوة والدعاة سنة 1977، وكان هو مقرر المؤتمر، وجالسته من ثلاث وثلاثين سنة، وكنت متحمسا، محتفظاً برأيي وأَنِسَ إليَّ بعد لقاءات، وبعد استرابة، فسمتي سمت سلفي، وطرحي ناقد ثوري، ثم حدث أن قلت له: يا شيخي إنني أكتب كتابا أنتقد فيه بعض آرائك. ففاجأني بقوله: اكتب يا بني اكتب أنا حفي بالخلاف، اكتب ولا تتحرج..

ولمته صراحة، لأنه لم يربِّ تلاميذ على يديه كما فعل الأئمة، وخفي عليَّ أن الله عز وجل ربى له مئات وألوف التلاميذ الذين قرؤوه وفهموه وافتتنوا به وحاوروه وكتبوا عنه المقالات والكتب، ومنهم من أخذ عنه الرسائل الجامعيَّة، ومنهم من أعدَّ البرامج التلفزيونيَّة والإذاعيَّة، وسيبقى بفضل الله تعالى أطول وأطول، وستقدر عطاءه الأجيال، رحمه الله ورفع درجاته في الصالحين.

وقد شرفني الله بأن صلى ورائي ذات مغرب - قبل ثلث قرن - في جمع لا يتكرر مثله من العلماء ( كان منهم أصحاب الفضيلة الأساتذة الدكاترة القرضاوي وعبد العظيم الديب، وصلاح أبو إسماعيل، والسالوس والقره داغي والعماري وغيرهم وكنت أقرأ من سورة الغاشية، وأقف بعد الاستفهام التعجيبي: أفلا ينظرون إلى الإبل؟ كيف خلقت؟ وإلى السماء؟ كيف رفعت؟ وإلى الجبال؟ كيف نصبت؟ وإلى الأرض؟! كيف سطحت؟

ويبدو أنه تأثر بهذا الوقف والله أعلم، فلما انتهت الصلاة لم يتردد في أن يسلم عليّ، ويثني على قراءتي، وكانت مفاجأة ألجمتني، وأطارتني فرحة وحبورا..

وها أنا وقد نهزتني الفرصة في مئوية الغزالي لأكتب عن العلامة المتفرد الشيخ محمد الغزالي، بعد اتصال من أخي الكريم الدكتور وصفي عاشور يقول لي - بلسان الحال - إنني مقصر في حق الشيخ، ولما أكتب عنه، وكانت فرصة طيبة لأخرج هذا الكتاب المتواضع، ثم لأكتب في عمل ثانٍ: عقيدة الإمام الغزالي)، وكنت قد دققت من قبل فقه السيرة، ولعلي أكون قد وفيت الشيخ الجبل بعض حقه، عليه رحمات الله ورضوانه.

وإنني لأرجو ألا أكون قد قلت في هذه الورقات إلا حقا، وأن تكون نظراتي فيه توفيقا وصدقا، وأن يحقق فيه ظني بلقياه ووالدي في فردوسه الأعلى عند سيدنا المصطفى حبيبه وحبيبي..

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، في مقعد صدق عند مليك مقتدر اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين

 

ملحوظة هامة:

جلُّ اعتمادي في هذا الكتاب على كتب الشيخ نفسه ومذكراته، فهو أولى من يتكلم عن نفسه، بجانب لقاءاتي به وقد لخصت منها ما يعكس عبقريته، ونواحي تفرده، وجلبت ما استطعت من جوانب شخصيته العظيمة، ولم أستوعب، ولعلى أتم هذا بعد، والحمد لله رب العالمين.

 

تحميل الملف